﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الهجرة إلى المدينة

الثلاثاء 03 جمادى الأولى 1443, الثلاثاء 07 ديسمبر 2021

عرض الرسول ﷺ نفسه على القبائل:

لم يعد لدى رسول الله ﷺ أي أمل في أن تكون مكة مركز الدعوة، وكان عليه أن يفتش عن مكان آخر، وعن قوم آخرين - غير قريش - يقومون بحمايته حتى يبلغ دعوته.

وكان عليه في سبيل ذلك أن يستفيد من مواسم الحج. ومن مواسم الأسواق (1)، بل كان عليه أن يغشى القبائل في أماكنها. . وهو ما فعله ﷺ، كما كان لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف، إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده.

 وكان أعداء الله يلاحقونه في خطواته تلك. . فكان أبو لهب يقف بعده في كل مكان وقف فيه يكذبه ويدعوهم ألا يتركوا اللات والعزى.

 كان يقول ﷺ: (يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به).

 ولم يقبل ذلك منه أحد، وكان يقولون: قومك أعلم بك، ولم يكن أحد من العرب أقبح رداً من بني حنيفة.

_______________________

(1) أسواق الموسم هي: عكاظ ومجنة وذو المجاز. وكانت العرب إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى مجنة فتقيم فيه عشرين يوماً ثم تجيء إلى ذي المجاز فتقيم به أيام الحج.

 


ومن جملة من عرض عليهم نفسه بنو عامر بن صعصعة، فقال بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا. لا حاجة لنا بأمرك.

 ويحسن بنا أن نتأمل هذا النص، مكة معرضة، والقبائل التي التقى بها لم تقبل منه، ويقف هنا على قوم استطاعوا بفراستهم أن يعرفوا بعض قدره ﷺ، ولكنهم يشترطون أن يكون الأمر لهم من بعده، إنه إيمان مشروط. وإن أي رجل - غير رسول الله ﷺ - كان من الممكن أن يسارع إلى قبو شرطهم وقد سدت السبل في وجهه حتى كاد الأمل يصبح سراباً، كان من الممكن أن يقبل وبعد أن يسيروا في طريق الإيمان يملي عليهم ما يريد؟ ولكن الغاية الرفيعة ينبغي أن تكون وسيلتها رفيعة أيضاً. والإسلام لا يقبل أبداً المبدأ المكيافلي القائل: الغاية تبرر الواسطة.

 إن الأمر لله يضعه حيث يشاء: تلك الكلمات تعني الإصرار على الحق وحتى في أحلك الظروف. وإن دلت على شيء فهو تلك الإرادة التي كان يتمتع بها الرسول الكريم، والمثابرة على الدرب والمصابرة عليه مهما صعب. وتلك صفات قلما تتوفر في الرجال إلا إذا كانوا قد تربوا تلك التربية الإيمانية في ميدان الواقع على يدي رسول الله ﷺ. . . أو تربوا في ظلال ذلك المنهج (1).

_______________________

(1) كان موقف أبي بكر رضي الله عنه يوم  الردة تطبيقاً لهذا المنهج الذي وعاه من رسول الله ﷺ. 



إن قضية الإيمان والعمل لله ليست صفقة تجارية قابلة للمساومات وإملاء الشروط. والرسول ﷺ مبلغ عن الله وليس له من الأمر شيء. . ولم يُتح له حتى الآن الوقوف على من يفهم مهمته ودعوته فيقدرها حق قدرها. . ولكن الثقة بالله كبيرة. . وما عليه إلا أن يتابع المسير. . فبعد شدة الظلام يطلع الفجر.


مواد ذات صلة