﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الثلاثاء 15 جمادى الآخرة 1443, الثلاثاء 18 يناير 2022

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء" 214] وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]

(1).

فانظر إلى قولهم: "ما جربنا عليك كذباً"، يعني: ولا حتى مرة واحدة، قيلت هذه الكلمة أمام هذه الجموع، ولم ينكرها أحد، مع أنه عاشرهم أربعين سنة قبل أن يبعث، ومع هذا ما جربوا عليه كذباً قط.

بل حتى من لم يعرفه كان إذا رآه علم أنه صادق:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. متفق عليه (البخاري: تفسير القرآن، باب: تباب خسران وتتبيت تدمير، رقم (4687)، ومسلم: الإيمان، باب: قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، رقم (208).



عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ" .

(1)

يقول ابن رواحة رضي الله عنه: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك بالخبر (2)

ومن سمع كلامه علم صدقه، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ضماداً قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي علي يدي من شاء، فهل لك؟ فقال: رسول الله ﷺ: "إن الحمد لله نحمده ونستعيه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد"، قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس (3) البحر. قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه فقال رسول الله ﷺ: " وعلى قومك؟" قال: وعلى قومي. قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. أخرجه الإمام أحمد (23272)، والترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2485)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في قيام الليل، رقم (1334)، والدارمي: كتاب الصلاة، باب: فضل صلاة الليل، رقم (1460)، وإسناده صحيح، صححه الترمذي والألباني في صحيح الترمذي (2/ 303)، وعبد القادر الأرناؤوط في جامع الأصول (9/ 551)، وغيرهم.

2. انظر: ديوان عبد الله بن رواحة (ص 95)، جمع ودراسة وتحقيق: د. حسن محمد باجودة، القاهرة، مكتبة التراث، 1972م.

3. أي: عمق البحر.



فبعث رسول الله ﷺ سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً، فقال: رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد (1).

إذن: من عاشره شهد بصدقه، ومن رآه من أول وهلة بصدقه، ومن سمع كلامه شهد بصدقه، ومن سمع عنه ولم يره - كحال هرقل - شهد بصدقه، وعدوه - كأبي سفيان - شهد بصدقه، فهل بعد هذا مطعن فيه؟

ومن المعلوم ضرورة أنه لا يمكن لرجل كاذب، مداوم على الكذب، ويدعي كل يوم أنه يأتيه وحي جديد من الله تعالى، ومع هذا لم يستطع أحد أن يلاحظ ذلك عليه ويعرف حقيقته! فمن كان في قلبه خلاف ما يبطن لا بد أن يزل، وأن تعرف حقيقته بفلتات لسانه ولحن قوله، كما قال سبحانه تعالى عن المنافقين: 

{وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَٰلَكُمْ}

[محمد: 30]

وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أبداها على صفحات وجهه وفلتات لسانه" (2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (868).

2. ذكره ابن تيمية في الجواب الصحيح (6/ 487)، ولم يذكر من خرجه، وكذا ذكره ابن مفلح في الفروع (1/ 153) ولم يعزه لمصدر، ولم أجده بعد طول عناء في البحث في مظانه، ولكن المعنى صحيح على كل حال.



"وعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين، وأرخيت لها عنان الشك، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة، لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك، إلا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك، فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم، فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة؛ تتمثل فيها عقائده، وعوائده، وأخلاقه، ومجرى تفكيره، وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته (1)، وكشف رغوته عن صريحه (2)، ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حُجب الكتمان، فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهمته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله، تنم على طبعه إذا أحفظ أو أحرج، أو احتاج أو ظفر، أو خلا بمن يطمئن إليه.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة           وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فما ظنك بهذه الحياة النبوية، التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها، فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص مائلاً في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله، بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته، يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل، ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله ﷺ على ما قال برهاناً؛ فمنهم العشير (3) الذي عرفه بعظمة سيرته، ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه" (4) كما حصل لعبد الله بن سلام ﷺ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. استباط خليته: الخيلة في اللغة هي الكبر، ولكن اشتقاقات فعل خال يخيل تظهر معاني الخفاء والاستشكال والتلون، فهنا قد تعني كلمة (استنباط خليته): فهم وإظهار ما يراد إخفاؤه.

2. كشف رغوته عن صريحه: الرغوة هي ما يكون فوق اللبن عند صبه في الإناء [أي: الفقاقيع]، والصريح هو اللبن الخالص، وهو التعبير يعني أجمالاً: كشف الزيف عن الحقيقة.

3. العشير: الزوج أو المعاشر أو الصديق القريب، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

4. النبأ العظيم (ص 38).



ثم إن الكاذب لو استطاع أن يكذب على كل الناس؛ فإنه لن يكذب على نفسه ويصدق كذبه.

ومن هذه الأمثلة على هذه الحقيقة قوله تعالى: 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

[المائدة: 67].

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" ، 

(1)

فهل هذا فعل كاذب، كيف لكاذب أن يطرد الذين يحرسونه بزعم أن الله سيعصمه، وهو يعلم في قرارة ذاته كذب نفسه، والعرب قد رمته عن قوس واحدة تتربص له في كل طريق، ألا يخاف أن يغتال؟!

إن هذا الأمر لا يفعله إلا رجل صادق، يأوي إلى ركن شديد، واثق من أن الذي أرسله سيحميه من كل المخاطر.

ومن هذا الباب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله ﷺ غزة قبل نجد، فأدركنا رسول الله ﷺ في واد كثير العضاه (2)، فنزل رسول الله ﷺ تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغضائها. قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله ﷺ معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله ﷺ فاحترطه (3)، فقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: من سورة المائدة، رقم (3046)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، رقم (2440)

2. العضاه: كل شجرة له شوك صغر أو كبر، واحدته: غضاهة، المعجم الوسيط (ع ض و).

3. اخترط السيف: استله. القاموس المحيط (خ ر ط).



لرسول الله ﷺ أتخافني؟ قال: "لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك"، وبينا نحن كذلك كذلك إذ دعانا رسول الله فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال: "إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتا (1)، قال: من يمنعك مني؟ قلت: "الله، فشامه - يعني: أدخله في غمده - ثم قعد فهو هذا"، قال: ولم يعاقبه رسول الله ﷺ (2).

"ومن أعظم الوقائع تصديقاً لهذا النبأ الحق، ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي ﷺ في غزوة حنين، منفرداً بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض بغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله ﷺ، فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب. . . أنا ابن عبد المطلب" (3)، كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فوالله ما نالوا منه نيلاً، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده" (4).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. سيف صلت: صقل ماض، والصلت: البارز: المعجم الوسيط (ص ل ت).

2. متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة المصطلق، رقم (3908)، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، رقم (843).

3. متفق عليه (البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين، رقم (1776).

4. النبأ العظيم (ص: 49).

مواد ذات صلة