﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا

الأحد 27 جمادى الآخرة 1443, الأحد 30 يناير 2022

كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم (1) إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً.

فلما بلغها عن رسول الله ﷺ ما بلغها، من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل مما كانت تعطي غيره من التجار. فقبل رسول الله ﷺ ذلك، وخرج في مالها، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.

هذا ما جاء في "سيرة ابن هشام" (2).

وجاء في "شرح الزرقاني على المواهب"، نقلاً عن الواقدي وابن السكن: أن أبا طالب قال: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير (3) قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالاً من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدا.

فقال ﷺ: (لعلها ترسل إلي في ذلك).

فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك.

______________________


1. تضاربهم: المضاربة نوع من الشركة، يقوم به أحد الطرفين بتقديم المال ويقوم الثاني بالعمل، ويكون الربح بينهما بنسبة متفق عليها.

2. "سيرة ابن هشام" (1/ 188).

3. العير: الإبل التي تحمل التجارة.



فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له - وقبل ذلك صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه - فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، وأرسلت إليه وقالت: دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. . (1).

ولا خلاف بين الروايتين، فكلاهما يؤكد أن دعوة محمد ﷺ كانت من قِبل خديجة، وأن اللقاء الأول الذي حدث بينهما كان بسبب هذه التجارة.

وكلاهما كان مسروراً بهذا اللقاء، فخديجة تضع مالها في اليد الأمينة، ومحمد ﷺ يأمل الحصول على شيء من المال، يستطيع به أن يخفف عن عمه أبي طالب تلك الضائقة. .

وانطلق محمد ﷺ مع ميسرة - غلام خديجة - حتى بلغ سوق بصرى، فباع بضاعته واشترى سلعاً أخرى مما يحتاج إليه أهل مكة. .

ولما وصل مكة استأذن على خديجة. . وقدم لها مالاً وفيراً ثمناً لما باع، وقدم لها السلع التي اشتراها لتباع في مكة. . وكان ذلك فوق ما كانت تحصل عليه من قبل. . وقد قدمت له في المقابل أكثر مما كانت تقدم لغيره..

وخرج محمد ﷺ من بيت خديجة ليجلس إليها ميسرة، فيحدثها عن رحلته، ومما جاء في حديثه بيان سماحته وعظيم أخلاقه وحسن معاملته.

ولقد وقع محمد في قلب خديجة عن اللقاء الأول يوم طلبته لتبعثه في تجارتها، وكان قد مهد لهذا الوقوع حسن سمعته وعلو أخلاقه، حتى أصبح يعرف بالأمين، فيقال: جاء الأمين وفعل الأمين.

______________________

1. "شرح الزرقاني" (1/ 197).




وزاد هذا الأمر بعد ما رأت من أمانته الشيء الذي فاق الوصف، فالمعاملة هي الميزان الذي يصدق الأقوال أو يكذبها. ولهذا أقبلت على ميسرة تسأله عن كل صغيرة وكبيرة في سلوكه وتصرفاته. فسمعت ما يثلج الصدر ويسر الخاطر.

وكانت خديجة - وهي المرأة العاقلة - تسمع من ابن عمها ورقة بن نوفل: أن نبياً سيبعث في هذه الأمة وقد أظل زمانه. . فوقع في خلدها أن محمداً ربما كان ذلك النبي المنتظر. . فزاد ذلك من محبتها له. . ودفعها كل ذلك للسعي من أجل الزواج منه.

والمرأة لا تقصها الحيلة والتدبير في مثل هذا الموطن، فأفضت بما في نفسها إلى صديقتها "نفيسة بنت مُنية" وكلفتها بالأمر. .

قالت نفيسة (1): كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكل قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيساً إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام.

فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟

فقال: (ما بيدي ما أتزوج به). قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟

قال: (فمن هي؟). قلت: خديجة:

______________________

1. نفيسة بنت أمية، وأمها منية، وأخوها يعلى بن أمية بن أبي عبيد، ويقال له: يعلى بن منية أيضاً. أسلم هو وأخته نعيسة "الإصابة". وقال في "الإصابة": وهي التي مشت بين خديجة والنبي ﷺ حين تزوجها.



 

قال: (وكيف لي بذلك؟). قالت: قلت: عليَّ.

قال: (فأنا أفعل) (1).

 ويذكر ابن هشام: أن خديجة بعثت إلى محمد ﷺ وقالت له: يا ابن عم! إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك (2) في قومك وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها (3).

 والرواية الأولى أقرب إلى عادات الناس وتقاليدهم يومئذ، وأقرب فيما يتعلق بخديجة خاصة من حيث مكانتها في قومها. ولعل ما ذكرته الرواية الثانية قد حدث بعدما استوثقت خديجة من رغبته ﷺ في ذلك لتيسر عليه أمر الجانب المادي الذي كان عثرة في طريق تفكيره بأمر الزواج من حيث الأصل.

 مهما يكن من أمر فإن ما حصل كان كافياً ليدفع محمداً ﷺ لذكر ذلك لعمه أبي طالب. . ليقوم بما جرت به العادات والتقاليد يومئذ في مثل هذا الأمر.

 وذهب أبو طالب مع وجوه قومه إلى عم خديجة عمرو بن أسد فخطبها منه، وكان أبوها قد مات قبل حرب الفجار (4)، فوافق عمها، وخطب أبو طالب بهذه المناسبة، فقال:

______________________


1. "سبل الهدى والرشاد" (2/ 223) لمحمد بن يوسف الشامي.

2. من الوسط، وهو من أوصاف المدح في النسب والشرف.

3. "سيرة ابن هشام" (1/ 189).

4. جاء في بعض الروايات أن أباها هو الذي عقد لها وكان في حالة من السكر، فلما صحا من سكره أنكر ذلك، ولكنه سكت بعد أن استرضته خديجة. مكانة محمد شرفاً ونسباً، ومكانة عبدالمطلب وأسرته لها الرياسة في مكة، ولا أدل على ذلك من أن قريشاً اختارته ممثلاً لها في مقابلة أبرهة يوم جاء غازياً مكة..



وهذه الرواية طبل لها المستشرقون ونشروها على اعتبارها الرواية الوحيدة. انظر في ذلك: "السيرة النبوية" لأبي شهبة (1/ 221) وذلك للحط من مكانة النبي ﷺ، وأنه أقل من خديجة. .؟!

وهذه الرواية لا تعطي سبباً لعدم رضى والدها، وهو أمر مستغرب، فقد كان لها ملء الحرية في اختيار من تتعامل معه في تجارتها كما أن زوجها الأول وكذلك الثاني ليسا في  =

 الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر (1) مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله، لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به، وهو وإن كان في المال قل (2)، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل (3)، وعارية مسترجعة. ومحمد من عرفتم قرابته، وهو - والله - بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة. .

وقد أصدقها أبو طالب خمسمائة درهم وأضاف إليها محمد ﷺ زيادة على ذلك عشرين بكرة.

وتم الزواج، ونحر ﷺ جزوراً أو جزورين، فأطعم الناس. .

وسبق لخديجة أن تزوجت مرتين قبل زواجها من محمد ﷺ.

أما الزوج الأول: فهو أبو هالة، واسمه هند بن النباش بن زرارة التميمي، فولدت له ذكرين، هما: هند، وهالة.

وهكذا لا نجد سبباً لهذا المسلك من والدها لو كانت الرواية صحيحة؟!

قال الواقدي: "الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وأن عمها عمراً هو الذي زوجها". وقال الشامي: الذي ذكره أكثر علماء السير: أن الذي زوجها عمها "شرح المواهب اللدنية" (1/ 202).

والغريب أن أحد كتاب السيرة، أخرج كتاباً تحت عنوان "السيرة الصحيحة" ولم يذكر إلا رواية السكر دون أي تعليق، فهل دخل التدليس إلى عناوين الكتب أيضاً؟!

______________________

1. الضئضئ، والعنصر: بمعنى الأصل.

2. أي: قليل المال.

3. حائل: أي لا بقاء له.



وهند: صحابي، روى صفة النبي ﷺ، وشهد بدراً وأحداً. .

وكذلك هالة صحابي أيضاً كما جاء في "الإصابة".

وأما الزوج الثاني: فهو عتيق بن عابد المخزومي، تزوجت به بعد وفاة أبي هالة، ولدت له بنتاً اسمها "هند" وقد أسلمت هذه البنت وصحبت.

فلما مات عتيق عزفت عن الزواج، وكانت ترفض من يتقدم إليها حتى هيأ الله لها محمد ﷺ.

وكانت تدعى في الجاهلية بـ"الطاهرة" وذلك لشدة عفافها وصيانتها كما سميت "سيدة نساء قريش" (1).

وكان عمر النبي ﷺ يوم زواجه من خديجة خمساً وعشرين سنة، وتكاد تُجمع الروايات على ذلك (2).

بينما تختلف الروايات في شأن عمر خديجة رضي الله عنها، وكثير من كتب السيرة تذكر أن عمرها كان يومئذ أربعين سنة، وإذا تذكرنا أنها أنجبت من النبي ﷺ ستة أولاد، أدركنا أنه لو كان عمرها كذلك لما استطاعت إنجاب هذا العدد، ولهذا ذهب ابن كثير إلى أن عمرها كان خمساً وثلاثين سنة (3).

وذهب بعضهم إلى أن عمرها كان ثلاثين سنة، وقال بعضهم: كان ثمانية وعشرين (4).

______________________

1. "شرح الزرقاني على المواهب" (1/ 199).

2. المصدر قبله (1/ 198).

3. "البداية والنهاية" لابن كثير (2/ 295).

4. "شرح المواهب على الزرقاني" (1/ 200).



ومهما يكن من أمر فالقول بـ"الأربعين" قول مستبعد، ولا شك بأنها كانت متقدمة في السن عن النبي ﷺ ولكن الفارق لم يكن كبيراً، ومما يؤكد هذا أن الفتاة كانت تزوج في الخامسة عشر من عمرها. . وفي ذلك الوقت.

ومضت الأيام هادئة سعيدة في هذه الأسرة التي جمعت بين "الأمين" و "الطاهرة" وأقر الله عينيهما بالذرية الطيبة.

 وقبل بلوغه ﷺ الأربعين من العمر بدأت إرهاصات النبوة تتوالى، فكان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه، فيذكر ذلك لخديجة فتصدقه وتثبته، ولا شك بأن ما كانت تسمعه من ابن عمها ورقة بن نوفل عن بعثة نبي قد أظل أوانه قد جعلها مؤهلة لتصديق ذلك والإيمان به.

 وفي هذه المدة كان ﷺ لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فصدقها الواقع وجاءت كما رآها، كما حبب إليه الخلاء، والبُعد عن الناس.

 فكان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد، وكان يتزود لذلك، وربما طال غيابه فتخاف عليه خديجة فتبعث غلمانها للبحث عنه. .

لم تكن خديجة لتستغرب هذه الأحوال منه ﷺ، فقد استقر في خلدها وغلب على ظنها أنه ربما كان النبي المنتظر، ولذا فهي تسعى جاهدة في تلبية ما يرغب به من عزلة. . فكانت تؤثره على نفسها فترضى ببُعده عنها الأيام المتتابعة طالما أن ذلك مما يرضيه ويلبي رغبته. .

وفي يوم من أيام شهر رمضان من سنة الأربعين من عمره ﷺ رجع من خلوته إلى خديجة في حالة من الفزع والخوف وهو يرجف فؤاده، فقال:

(زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. . 

 ثم أقبل على خديجة يحدثها بما جرى له. .

فقال: (إن الملك جاءه في غار حراء فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ. . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.

 فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: 

{ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ}

[العلق]

ثم قال لخديجة: (لقد خشيت على نفسي).

 كانت خديجة تسمع الخبر بكل حواسها، فلما قال لها: لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (1)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (2).

 ثم قالت له: انطلق بنا إلى ورقة بن نوفل. .

وكان ورقة قد تنصر في الجاهلية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى.

 فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ (3) الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (4)، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

______________________

1. الكل: الضعيف، والمقصود مساعدة الضعفاء وذوي العيال.

2. نوائب الحق: ما ينزل بالناس من المصائب.

3. الناموس: صاحب السر، والمراد به: جبريل عليه السلام.

4. تمنى ورقة أن لو كان شاباً عند ظهور الدعوة حتى يكون من أنصارها.


فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟) قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا (1).

إنه موقف لا يُنسى للسيدة خديجة، موقف اليقين والثقة بالله تعالى، أنه لن يخزي محمداً، فهي تعرف من خلقه الرفيع وشمائله الكريمة ما لا يعرفه غيرها. .

وما أحوجه ﷺ في مثل ذلك الموقف إلى من يصدقه بما يقول ويؤازره، فكان قصب السبق في ذلك لمن اختارها الله تعالى لهذه المهمة.

ومن المتفق عليه أنها أول من آمن بالله ورسوله من الرجال والنساء دون استثناء، فلم يتقدمها رجل ولا امرأة.

كما كانت أول من صلى معه ﷺ بعد أن نزل جبريل وعلمه الوضوء والصلاة.

ولما أمر بتبليغ الدعوة، ودعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى. وقف معظم الناس في وجه هذه الدعوة، وكان ﷺ يلقى في سبيل ذلك العنت والمشقة والتكذيب، فإذا رجع إلى بيته استقبلته خديجة مخففة عنه تلك الهموم والآلام. .

قال ابن هشام: "آمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاء من الله، ووازرته (2) على أمره.

______________________


1. رواه البخاري (3)، ومسلم (160).

2. وازرته: الوزير: هو الذي يؤازر الأمير، فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ إليه ومفزع "النهاية".



وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه ﷺ، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى" (1).

 وهكذا لم تعد خديجة مجرد زوجة، بل أصبحت المساعد والمعين في أمر الدعوة إلى الله تعالى، فوقفت إلى جانبه تشد من أزره وتواسيه وتقويه، وتصبره. .

 ولما كانت الهجرة إلى الحبشة، كانت رقية ابنتها وزوجها عثمان رضي الله عنهما أول المهاجرين إليها، وهكذا تفارق ابنتها. . إلى مجهول ما تدري نتائجه.

 هكذا تتصاعد حملة العداء من المشركين ضد محمد ﷺ وضد دعوته. . إلى أن آل الأمر بهم إلى إعلان المقاطعة الاقتصادية للمسلمين وبني هاشم. . وانحاز المسلمون إلى شعب أبي طالب، وانضم إليهم بنو المطلب. . وانحازت خديجة أيضاً إلى الشعب. . فتحملت مع المسلمين مصابهم ومكابدتهم. . وبذلت من أموالهما الكثير في سبيل تخفيف العناء عن المحاصرين. . وكانت تستعين من أجل ذلك بحكيم بن حزام - وكان يومئذ مشركاً - فكان يشتري الطعام ويرسله إلى عمته خديجة ليلاً. .

ومرت سنوات ثلاث على المقاطعة، حتى فرج الله بعد ذلك. .

وبعد الخروج من الحصار بوقت قليل توفي أبو طالب، وبعده بأيام توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها.

الأمر الذي أحدث فراغاً كبيراً في حياته ﷺ فقد فقد في وقت متقارب سندين مهمين، كانا يدفعان عنه. . وسمي ذلك العام عام الحزن.

______________________


1. "سيرة ابن هشام" (1/ 240).



 

عشر سنوات مرت على خديجة وهي ترعى الدعوة وتؤازر حاملها يوماً بعد يوم بل وساعة بعد ساعة، فقد أصبح ذلك شغلها الشاغل الذي يهيمن على تفكيرها، ويوجه نشاطها.

واليوم وهي تغادر الحياة الدنيا، فإن ذكراها وخيالها وكل ما يرتبط بها ما يزال يأخذ حيزه من قلب الرسول ﷺ وفكره وعواطفه.

لم تكن عطاءاتها للدعوة بالأمر اليسير، ولم يكن جهادها بالأمر الذي يُنكر، وإن أعلم الناس بحجم هذا العطاء وهذا الجهاد هو حامل الدعوة ﷺ. .

وهذا ما يفسر لنا عظيم هذا الوفاء منه ﷺ - وهو أهل الوفاء - فقد ظل ذكرها على لسانه طول حياته، وكذلك تكريم كل من يمت إليها بصلة، حتى أثار ذلك غيرة عائشة رضي الله عنه فقالت في بيان ذلك:

ما غرت على امرأة للنبي ﷺ ما غرت على خديجة - وقد هلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب (1)، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن، قالت: فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: (إنها كانت وكان لي منها ولد) (2).

وفي موقف آخر من مواقف الغيرة قالت عائشة رضي الله عنها:

استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله ﷺ، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك فقال" (اللهم هالة) قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين (3)، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها (4)؟

______________________


1. القصب: اللؤلؤ المجوف.

2. رواه البخاري (3816)، ومسلم (2435).

3. حمراء الشدقين: المقصود أن أسنانها قد سقطت فلم يبق في فمها بياض.

4. رواه البخاري (3821)، ومسلم (2437).



وفي رواية عنها رضي الله عنها قَالَتْ: 

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا!! قَالَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ) (1).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي ﷺ فقال: (كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟) قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟

فقثال: (يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) (2).

هذه المواقف من الغيرة من امرأة بعد موتها تبين مكانتها عنده ﷺ، كما تبين حسن الوفاء منه ﷺ، وإن كان هذا الأمر أوضح من أن يبين.

لقد كانت خديجة هي الغائبة الحاضرة في حياته ﷺ لكثرة ما يذكره بها. .

ولقد أكرمها الله سبحانه وتعالى أيما إكرام في الحياة الدنيا قبل الآخرة.  

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ (3) فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (4) لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ (5).

______________________


1. رواه الإمام أحمد، "الفتح الرباني" للبنا (20/ 240).

2. "فتح الباري" (10/ 436) وقال: أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشعب".

3. هذا الشك من رواي الحديث.

4. القصب: هو اللؤلؤ المجوف.

5. رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432).



فأي تكريم أعظم من هذا التكريم ينزل جبريل عليه السلام، ليحمل لها السلام من ربها سبحانه وتعالى ومعه البشارة بالجنة.

وروى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ النببي ﷺ: قوله: (خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ) (1).

أي أن كلاً منهما خير النساء في زمانها.

كانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت بالحجون، ولم يكن يومئذ يُصلي على الجنازة.

رحم الله خديجة، ورضي عنها، وأسكنها فسيح جناته.

______________________


1. رواه البخاري (3432)، ومسلم (2430).


 

مواد ذات صلة