﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

إرساء القواعد

السبت 22 رمضان 1443, السبت 23 أبريل 2022

وفي المدينة بدأت حياة الاستقرار، ووجد الرسول ﷺ الراحة والاطمئنان، بعد عناء شاق مرير، كما وجد الصحابة المهاجرون الأمن والحرية في إعلان شعائر دينهم، وبدأت مرحلة البناء بإشرافه ﷺ، بناء المجتمع الجديد الذي تعلو فيه كلمة الله تعالى، ويسري فيه الهدي النبوي، تربية وسلوكاً، وطاعة وحباً. ونحب أن نذكر من هذه القواعد:

 1- بناء المسجد:

كان رسول الله ﷺ في مكة يأوي إلى المسجد الحرام، الذي كان يومئذ منتدى القوم، حيث توزعت في جوانبه الأصنام وارتفعت شعائر الشرك، وبدلت فيه شعائر الحج. . فطاف الناس عراة، وتحول الطواف إلى صفير وتصفيق. . . وذهبت من المسجد معانيه، وبقي معلماً للتذكير بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

 كان ذلك في مكة. . وبركت ناقته ﷺ بعد أن ترك لها الزمام - وقد أمرهم أن يتركوها لأنها مأمورة - في مربد لابني عمرو مقابل دار أبي أيوب الأنصاري.

 كان هذا المكان مدخراً من الله تعالى ليكون ثاني أفضل مكان على وجه الأرض، وليكون المركز الأول لانطلاق دعوة الإسلام في كل أرجاء المعمورة.

 وسأل ﷺ عن المربد لمن هو؟ فقال معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما عنه (1)، وفي رواية البخاري: قال ﷺ: (يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا) قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله (2)، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما (3).

 وكان في المربد شجر نخل وغرقد، وقبور للمشركين، فأمر ﷺ بالقبور فنبشت وبالشجر فقطع. . . وبدأت عملية البناء يشارك فيها رسول الله ﷺ بنفسه، وكان بناؤه من اللبن، وعُمده جذوع النخل، وسقفه الجريد، وبنيت بيوت نسائه ﷺ إلى جانبه بالأسلوب نفسه، فكان لسودة بنت زمعة بيت وآخر أعد لعائشة رضي الله عنهما.

 كان البناء متواضعاً، وكانت التكاليف زهيدة، فالبناؤون هم المسلمون الذين غمر الإيمان قلوبهم، فارتفع البناء بأيديهم رامزاً إلى ما في نفوسهم من معاني الحق والخير، وكانت تظاهرة من العمل الجاد، إذ كيف يجلس الصحابة وهم يرون رسول الله ﷺ يعمل بنفسه، ينقل الحجارة واللبن؟ وصاحب الرجز العمل، فمن قائل:

هذا الحمال لا حمال خيبر                            هذا أبر ربنا وأطهر

 

ومن قائل:

لئن قعدنا والنبي يعمل                      لذاك منا العمل المضلل

_______________________

(1) سيرة ابن هشام 1/ 496.

(2) متفق عليه (خ 428، م 524).

(3) البخاري. برقم 3906.



ومن قائل:

لا عيش إلا عيش الآخرة                             اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

وكان ﷺ يردد معهم البيت الأخير.

وتم البناء - كعريش موسى كما قال ﷺ - سقفه الجريد وفرش أرضه الرمل. . .

 وأضحى المسجد بعدها هو مكان الصلاة، وهو مكان التعليم وفيه تعقد الرايات، وتناقش الأزمات، وإليه يأوي المسلمون إذا حزبهم أمر. . .

 إن المسجد تجسيد لروح الحياة في ظل الإيمان، فالمسلم إذ يدخله خمس مرات في اليوم، إنما يؤكد الارتباط بالصلة بالسماء، والالتزام بأوامر الله تعالى، والانضباط مع هدي النبوة، فدخوله ذلك يعني قياس مستوى ذلك الالتزام والانضباط، إنه قياس لحرارة الإيمان، وتعبير عن الارتباط العضوي بجماعة المسلمين.

 إن المسجد هو مكان النظافة والتخلص من أدران البعد عن الله، إنها النظافة مادية ومعنوية، نظافة الحس ونظافة الروح.

[ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا]

(1).

ذلكم هو المسجد، المتواضع بناؤه، الرفع معناه. البالغ أثره.

_______________________

(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، والدرن: الوسخ (خ 528، م 667).

   

2- المؤاخاة:

كان المهاجرون قد تركوا بلدهم مكة، وفيها أموالهم، وأولادهم وإخوانهم، ولا شك أن هذا قد ترك في أنفسهم وحشة. يضاف إلى ذلك وحشة الغربة. فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة آخى بين أصحابه ليذهب عنهم تلك الوحشة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، وليشد بعضهم أزر بعض.

 إن الدافع إلى هذه المؤاخاة هو الوضع الاجتماعي الذي آل إليه أمر المهاجرين وقد تركوا دورهم وأموالهم وعشيرتهم، بعد أن خرجوا خفية مهاجرين إلى الله ورسوله، وهذا ما ألمح إليه ﷺ بقوله مخاطباً الأنصار: (إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم. .) (1).

 ولئن كان الخط العريض للمؤاخاة: أنها بين المهاجرين من جانب، وبين الأنصار من جانب آخر، فإن هذا لم يمنع أن تكون بعض هذه الأخوة بين المهاجرين بعضهم مع بعضهم الآخر، ذلك أن الغاية من تعيين هذه الأخوة تحديد المسؤولية في المواساة والنصرة والرفادة، وواضح أن بعض المهاجرين كان أحسن حالاً - من الناحية المادية - من بعضهم الآخر.

 وقد كان لهذه الأخوة أثرها البعيد حتى كان التوارث يقوم على أساسها دون القرابة. قال ابن عباس: "كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري، دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي ﷺ بينهم. . " (2) واستمر العمل كذلك حتى نزل قوله تعالى:

{وَأُولُوا ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍۢ فِى كِتَٰبِ}

(3)

حيث ردَّ الميراث إلى ذوي الأرحام وبقيت النصرة والرفادة.

_______________________

(1) أورده ابن كثير في تفسير الآية التاسعة من سورة الحشر.

(2) البخاري في كتاب الفرائض (6747).

(3) سورة الأنفال: الآية 75.


 

وقد ضرب الأنصار أورع الأمثلة في ميدان الكرم والمواساة، حتى جاء المهاجرون إلى رسول الله ﷺ خائفين أن يكون ذلك مذهباً لأجرهم، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم) (1).

ومن الأمثلة ما روى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

"لَمَّا قَدِمَ علينا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ - وكان كثير المال- فَقَالَ سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فاطلقها حتى إذا حلت تزوجتها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك. . وفي الرواية الأخرى بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو. ."

(2).

قام الأنصار بأداء ما تتطلبه تلك الأخوة من التزامات، واستمر أداؤهم كذلك حتى وسع الله على المسلمين، حينما غنموا من بني النضير ما غنموا. .

وقد ظل الصحابة ملتزمين بهذه الأخوة على الرغم من إنهائها بآية المواريث. فقد أرسل عمر بن الخطاب إلى بلال رضي الله عنهما - وقد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهداً - يسأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان رسول الله ﷺ عقد بيني وبينه (3).

وإذا عرفنا أنه لم ينزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة. وذلك لتسابق الأنصار ورغبتهم في الحصول على شرف المساهمة في تحمل المسؤوليات استطعنا أن نقدر عمل الأنصار الذي أشار إليه المهاجرون وهم يسألون رسول الله خوف أن يذهب أجرهم.

_______________________

(1) نقله ابن كثير في تفسيره، سورة الحشر الآية 9 من رواية الإمام أحمد في المسند.

(2) الروايتان في البخاري (3780، 3781).

(3) سيرة ابن هشام 1/ 507.



وبهذا استحقوا ثناء الله عليهم حيث قال تعالى:

{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}

(1).

3- وثيقة التنظيم الاجتماعي والسياسي:

كان لا بد - وفي المدينة غير المسلمين - من اتفاق يضبط علاقات الناس ببعضهم، وفق مبادئ عامة متفق عليها. وهذا ما فعله رسول الله ﷺ بهذا الصدد حيث كتب كتاباً (2) بين فيه المسؤوليات المترتبة على كل فريق من سكان المدينة، وهو كتاب مطول يمتاز بالوضوح والتفصيل وسوف نقف على القواعد العامة والواردة فيه محاولين تقسيمها إلى:

- ما يتعلق بالمؤمنين.

- ما يتعلق بالمشركين.

- ما يتعلق باليهود.

- القواعد العامة.

 أ- ما يتعلق بالمؤمنين:

  • المؤمنون من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.
  • كل فريق من المؤمنين (المهاجرين، بني ساعدة، بني الأوس. .) على ربعتهم (3) يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم (4) بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن المؤمنين لا يتركون   مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

_______________________

(1) سورة الحشر: الآية 9.

(2) انظر النص الكامل لهذا الكتاب في سيرة ابن هشام 1/ 501 - 504.

(3) الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.

(4) الأسير.



  • المثقل بالدين والكثير العيال. 
  •  المؤمنون المتقون على من بغى منهم، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
  • ذمة الله واحدة، يجير على المسلمين أدناهم، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس.
  • ومن تبع المؤمنين، من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم.

 

ب- ما يتعلق بالمشركين:

لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على المؤمنين.

 ج- ما يتعلق باليهود:

  • ينفق اليهود مع المؤمنين ما داموا محاربين.
  • يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم،. . ولبقية يهود (يهود بني النجار، يهود بني الحارث. . ) ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم.
  • لا يخرج من يهود أحد إلا بإذن محمد ﷺ.
  • على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح. . . والنصر للمظلوم.

 

د - القواعد العامة:

  • يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
  • ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار، يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله ﷺ.
  • لا تجار قريش ولا من نصرها.
  • وإن بينهم - أهل الصحيفة - النصر على من دهم يثرب،. .
  • من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله ﷺ.

تلك كانت الخطوط العريضة لما ورد في تلك الصحيفة التي تعتبر دستوراً كاملاً لتنظيم مجتمع، وبموجب هذه الوثيقة أصبحت المدينة حرماً آمناً، ثم حددت مسؤولية كل فرد في الحفاظ على هذه الحرمة. كما نظمت الأمن الداخلي بعقاب المجرمين وعدم إيواء المحدثين، كما بينت الحفاظ على الأمن الخارجي.

ومما يلفت النظر، ما ورد بشأن قريش وعدم إجارة أحد منها او إجارة من نصرها، فهي التي تمثل ذلك الحين العدو اللدود للمسلمين. كما نصت الوثيقة على الحرية الدينية لليهود، وأنهم جزء من المجتمع المدني ما داموا ملتزمين بالوثيقة محافظين على العهود.

كما بينت وجوب مشاركة جميع سكان يثرب في الدفاع عنها.

ومن الملاحظ أنه لم يرد في هذه الوثيقة ذكر للقبائل اليهودية الكبرى الثلاث: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، علماً بأن كل النصوص تؤكد وجود اتفاق بينهم وبين الرسول ﷺ وأن ما حدث لهذه القبائل - فيما بعد - إنما كان بسبب نقضها للعهد. قال صاحب الفتح: وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي ﷺ على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على ألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وقينقاع. . فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع. . ثم نقض العهد بنو النضير. . ثم نقضت قريظة (1).

_______________________

(1) فتح الباري. كتاب المغازي، باب 14.



ولكن كتب السيرة لم تدون نصوص هذه الاتفاقيات، على الرغم من ذكر جميع المؤرخين مخالفة اليهود لها. والذي يبدو أنها كانت شبيهة بالوثيقة السابقة، أو لعلهم وقعوا على الوثيقة نفسها فيما بعد.

وبهذا أرسيت قواعد الاستقرار، فالمسجد فيه تربية المسلمين وتنظيم سلوكهم، والأخوة: ترفد الحياة الاجتماعية بالحب والوفاء والإيثار، والوثيقة تضبط سلوك أولئك الذين ما زالوا مشركين وكذلك اليهود.

وبهذا تبدأ الدولة الناشئة مسيرتها بخطاً ثابتة، تبذل الخير لكل الناس، وهي في الوقت نفسه حاسبة للشر حسابه. .

4- اللهم حبب إلينا المدينة:

إن ارتباط الإنسان بالمواطن الذي نشأ فيه أمر يكاد يكون فطرياً فللبيئة الأولى التي نشأ بها أثرها الكبير في نفسه. ولقد رأينا كيف ودع رسول الله ﷺ مكة. على أن قضية الإيمان أكبر من أية عاطفة مهما كان شأنها. . وهذا لا يمنع أن يتذكر المرء موطنه الأول وأن يحن إليه. وهذا ما حدث حينما أصابت الحمى أصحاب رسول الله ﷺ.

 عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم. فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه ﷺ، قالت: فكان أبو بكر. وعامر بن فهيرة وبلال - مولياً أبي بكر - مع أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - وبهم ما لا يعلمه إلا الله  من شدة الوعك. فدنوت من أبي بكر فقلت له: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:

كل امرئ مصبح في أهله                            والموت أدنى من شراك نعله

قالت: فقلت والله ما يدري أبي ما يقول: قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت له: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه                          إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهـد بطوقــه                           كالثور يحمي جلده بروقه

 

قالت: فقلت والله ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة                        بــواد وحـولي إذخـر وجليـل

وهـل أردن يومـاً ميـاه مجنــة                       وهل يبدون لي شامة وطفيل (1).

 

اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) .

(2)

وهكذا ذكرهم المرض مكة فحنوا إليها. إن إرساء قواعد الاستقرار السابقة - المؤاخاة، والمعاهدة - كان لها أثرها الكبير في تأمين الاستقرار النفسي وذلك يحب المقام في المدينة. . وتوجه الرسول الكريم ﷺ إلى الله تعالى بدعائه يطلب أن يحبب المدينة إليهم وينفي عنها الوباء، وذلك أمر لا يملكه رسول الله ﷺ ولكنه يملك التوجه بالدعاء إلى مالكه سبحانه وتعالى، واستجاب الله الدعاء. . وتمت عوامل الاستقرار نفسية ومادية.

5- تجاوز المنغصات:

ذلك لا يعني أن الحياة في المدينة في هذه المرحلة قد خلت من المنغصات، ولكنها كانت أموراً محتملة، ينبغي الصبر عليها، ونعرض مثالاً على ذلك حادثة مما وقع قبل بدر.

_______________________

(1) شامة وطفيل: جيلان بمكة.

(2) متفق عليه (خ 1889، م 1376).

 


عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا (1) بِهِ فِي مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ (2)، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ ﷺ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا)، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ. . . فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.." (3).

 وهكذا فالمشركون من الأوس والخزرج واليهود من ورائهم، كانوا حريصين على الإساءة له ﷺ ولأصحابه. ولكن هذا لم يكن ليعيق المسيرة عن تقدمها.

_______________________

(1) (فلا توذينا) بإثبات الياء، هكذا وردت في نسخ البخاري وكذلك في فتح الباري ولم يعلق عليها. والأصل حذف الياء بعد "لا" الناهية.

(2) أي يتواثبون، أي قارب أن يثب بعضهم على بعض فيقتتلوا.

(3) متفق عليه (خ 4566، م 1798).

مواد ذات صلة