﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس الثقفي، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه، قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش، كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أمرا، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم.

فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.

(سؤاله النجاشي في قتل عمرو الضمري ورده عليه) :

فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه. قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إلي من بلادك شيئا؟ قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت إليك أدما كثيرا، قال: ثم قربته إليه، فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله! قال: قلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي.

(اجتماع عمرو وخالد على الإسلام) :

ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ﷺ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟

قال: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى، قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم. قال: فقد منا المدينة على رسول الله ﷺ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله ﷺ: يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها، قال: فبايعته، ثم انصرفت. قال ابن هشام: ويقال: فإن الإسلام يحت ما كان قبله، وإن الهجرة- تحت ما كان قبلها. [السيرة النبوية لابن هشام 2/276 – 278]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • كان إسلام عمرو بن العاص نصرًا كبيرًا للإسلام، والمسلمين فلقد سخر عقله الكبير ودهاءه العظيم لصالح دعوة الإسلام، وخسر الكفار بإسلامه خسارة كبيرةº لأنهم كانوا يعدونه لعظائم الأمور التي تحتاج إلى دهاء ومقدرة على التأثير وخاصة فيما يتعلق بعدائهم مع المسلمين.
  • إسلام عمرو بن العاص كان قوة للإسلام وضعفًا للشرك، وكتب الله على يديه صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين الجهادي أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الدهور وكر العصور، توالي الأزمان.
  • إسلام عمرو بن العاص في ميزان النجاشي إذ هو أول من واجهه بصدق رسول الله ﷺ
  • عظمة خبرة الرسول ﷺ في مخاطبة النفوس والتأثير عليها، فلقد أدرك مواهب خالد في القيادة والزعامة فوعد بتمكينه من ذلك وتقديمه على غيره في هذا المضمار، ومدح - ﷺ - سداد رأيه ورجاحة عقله، ونضج فكره، فانتزع - ﷺ - بهذه الكلمات كل الجوانب التي تجعل خالدًا يظل على الشرك الذي لم يكن مقتنعًا به إلا بمقدار ما حصل له فيه من قيادة وتصدر، فلما كان ما هيأه له المشركون سيحصل له إذا دخل في الإسلام، واطمأن بأنه لو أسلم لن يكون في آخر القائمة، ولن يكون مهملا، شجعه ذلك على التغلب على وساوس إبليس، ورجح ما اطمأنت إليه نفسه من الميل إلى الإسلام فعزم على الدخول فيه.
  • حب الرسول ﷺ لسيدنا خالد، فهو ﷺ لم يذكره بحديثٍ يجعله يهرُب من الإسلام، أو أن يصبح إسلامه مستحيلًا؛ كأنْ يبيح دمَه أو يلعَنه؛ كما فعل ﷺ مع غيره، وفي ذلك دلالة على أنَّ رسول الله ﷺ كان ينتظر إسلامَه رضي الله عنه؛ فإنَّه من ذلك النوع من الرِّجال الذين يحبُّهم رسول الله محمد ﷺ؛ لذكائهم وشجاعتِهم وقيادتهم العسكريَّة، وحتى عندما كان خصمًا عنيدًا للدَّولة الإسلامية فقد كان خصمًا شريفًا.
  • تأخُّر إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه كان فيه خير، من جانب أنَّ خالدًا رضي الله عنه يوم أسلَمَ حمل سيفَه ولم يرمِه حتى توفَّاه الله جلَّ جلاله وهو يجاهِد في سبيل الله؛ إيمانًا بقضيته، ورغبةً صادقة في التعويض عمَّا فاته.