﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

عرض الإسلام على القبائل في موسم الحج

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين، ممن آمن به. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين (لهم) الله ما بعثه به.

قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال:

سمعت ربيعة بن عباد، يحدثه أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان -الذؤابة من الشعر- عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش،إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه.

قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال:

هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب.

عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم- يقال له: بيحرة ابن فراس. قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة (الخير) بن قشير ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة-: والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، قال: فقال له: أفتهدف [1] نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السن، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا:

جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف، هل لذناباها من مطلب، والذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلي -أي ما ادعى النبوة أحد من بني إسماعيل كاذبًا- قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم.

وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة -حكمة- لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال له:

إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فان كان رجال من قومه ليقولون:

إنا لنراه قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بعاث -موضع حرب الأوس والخزرج-.

قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا له: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب. قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياس ابن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحيسر، أنس بن رافع، حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس ابن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته: أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. [السيرة النبوية لابن هشام 1/ 422 – 428]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • لابد من عرض قضية الإسلام على كل من لم يسمع عنه، والدفاع ودفع الشبهات فدافع عنه، واجعل هذا شغلك الشاغل، سواء استجاب الناس أم انصرفوا، فما عليك إلا البلاغ، وللقلوب رب يصرفها كيف يشاء.
  • لكل قلب ما يناسبه من الحوار والكلام، فللقلوب مفاتيح، وأذكى الدعاة من سارع إلى فتح مغاليق القلوب بما يناسبها ويلائمها.
  • 3-    الحرص على الشرف الدنيوي قد يُفقد العبد الشرف الأخروي، كما أن الحرص على شرف الآخرة يُكسب العبد العزة والسعادة في الدارين، فاجعل همومك هما واحدا، هو هم الآخرة، فيكفك الله كل هموم الدنيا.
  • الغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة، فلابد أن تكون الوسيلة مشروعة كما أن الغاية مشروعة.
  • إن من عباد الله أناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، هم للحق والهدى يتطلعون، وإذا دُعُوا إليه فبه يعملون، أولئك هم المفلحون الموفقون، فكن مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وكن للحق جنديا.