﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

غزوة الغابة ذي قرد

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

ثم قدم رسول الله ﷺ المدينة بعد غزوة بني لحيان، فلم يقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله ﷺ بالغابة -موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لأهل المدينة-، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللقاح.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث: أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فأشرف في ناحية سلع، نم صرخ: وا صباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان مثل السبع حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع [1] ، فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، قال: فيقول قائلهم: أويكعنا هو أول النهار.

قال: وبلغ رسول الله ﷺ صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، فترامت الخيول إلى رسول الله ﷺ.

وكان أول من انتهى إلى رسول الله ﷺ من الفرسان: المقداد ابن عمرو، وهو الذي يقال له: المقداد بن الأسود، حليف بني زهرة، ثم كان أول فارس وقف على رسول الله ﷺ بعد المقداد من الأنصار، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء، أحد بني عبد الأشهل، وسعد ابن زيد، أحد بني كعب بن عبد الأشهل، وأسيد بن ظهير، أخو بني حارثة ابن الحارث، يشك فيه، وعكاشة بن محصن، أخو بني أسد بن خزيمة، ومحرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة، وأبو عياش، وهو عبيد بن زيد بن الصامت، أخو بني زريق. فلما اجتمعوا إلى رسول الله ﷺ أمر عليهم سعد بن زيد، فيما بلغني، ثم قال: اخرج في طلب القوم، حتى ألحقك في الناس.

وقد قال رسول الله ﷺ، فيما بلغني عن رجال من بني زريق، لأبي عياش: يا أبا عياش، لو أعطيت هذا الفرس رجلا، هو أفرس منك فلحق بالقوم؟ قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله، أنا أفرس الناس، ثم ضربت الفرس، فو الله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني، فعجبت أن رسول الله ﷺ يقول: لو أعطيته أفرس منك، وأنا أقول: أنا أفرس الناس. فزعم رجال من بني زريق أن رسول الله ﷺ أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامنا، وبعض الناس يعد سلمة بن عمرو بن الأكوع أحد الثمانية، ويطرح أسيد بن ظهير، أخا بني حارثة، والله أعلم أي ذلك كان. ولم يكن سلمة يومئذ فارسا، وقد كان أول من لحق بالقوم على رجليه. فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة- وكان يقال لمحرز: الأخرم ، ويقال له قمير- وأن الفزع لما كان جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط، حين سمع صاهلة الخيل، وكان فرسا صنيعا جاما، فقال نساء من نساء بني عبد الأشهل، حين رأين الفرس يجول في الحائط بجذع نخل هو مربوط فيه:

يا قمير، هل لك في أن تركب هذا الفرس؟ فإنه كما ترى، ثم تلحق برسول الله ﷺ وبالمسلمين؟ قال: نعم، فأعطينه إياه. فخرج عليه، فلم يلبث أن بذ الخيل بجمامه، حتى أدرك القوم، فوقف لهم بين أيديهم، ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار. قال: وحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس، فلم يقدر عليه حتى وقف على آريه من بني عبد الأشهل، فلم يقتل من المسلمين غيره.

قال ابن هشام: وقتل يومئذ من المسلمين مع محرز، وقاص بن مجزز المدلجي، فيما ذكر غير واحد من أهل العلم.

(أسماء أفراس المسلمين) :

قال ابن إسحاق: وكان اسم فرس محمود: ذا اللمة.

قال ابن هشام: وكان اسم فرس سعد بن زيد: لاحق، واسم فرس المقداد بعزجة، ويقال: سبحة، واسم فرس عكاشة بن محصن: ذو اللمة، واسم فرس أبي قتادة: حزوة، وفرس عباد بن بشر: لماع، وفرس أسيد بن ظهير: مسنون، وفرس أبي عياش: جلوة.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك:

أن مجززا إنما كان على فرس لعكاشة بن محصن، يقال له: الجناح، فقتل مجزز واستلبت الجناح.

 (القتلى من المشركين) :

ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة، حبيب ابن عيينة بن حصن، وغشاه برده، ثم لحق بالناس.

وأقبل رسول الله ﷺ في المسلمين.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

قال ابن إسحاق: فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله ﷺ: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة، وضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه. وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار، وهما على بعير واحد، فانتظمها بالرمح، فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح، وسار رسول الله ﷺ حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فنزل رسول الله ﷺ به، وأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرحتنى في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم؟ فقال له رسول الله ﷺ، فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان.

فقسم رسول الله ﷺ في أصحابه في كل مائة رجل جزورا، وأقاموا عليها، ثم رجع رسول الله ﷺ قافلا حتى قدم المدينة.

وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله ﷺ، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، فلما فرغت، قالت: يا رسول الله، إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله ﷺ، ثم قال: بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله. والحديث عن امرأة الغفاري وما قالت، وما قال لها رسول الله ﷺ، عن أبي الزبير المكي، عن الحسن بن أبي الحسن البصري. [السيرة النبوية لابن هشام 2/281 – 285]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • أهمية تأديب المخالفين حتى لا يتطاولوا على أصول الدين، ويتهيبوا الدين، فكانت تلك الغزوة من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ضد أعراب نجد، وفي مطاردتهم وإيقافهم عند حدهم، لنشر الأمن والسلام في الدولة الإسلامية وما حولها، وتأديب المعتدين.
  • شجاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـومبادرة الصحابة عند النداء للجهاد وشجاعتهم خاصة سيدنا سلمة بن الاكوع ـ رضي الله عنه ـ
  • بطلان نذر المعصية، أو النذر فيما لا يملكه الإنسان.
  • حلم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسماحته في تبسمه حينما نهى المرأة أن تنحر ناقته التي نجاها الله عليها وحين لم يأمر بقتال العدو استغلالًا لعطشه بعد ان فرَّ.