﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

(اجتماع هوازن) :

قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم، (و) في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود ابن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري. فلما أجمع السير إلى رسول الله ﷺ حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به، فلما نزل قال:

بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.

قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك ودعي له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام. ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به  ثم قال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟

قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال:

ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطعيننى يا معشر هوازن أو لأتكسئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك، فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.

(الملائكة وعيون مالك بن عوف) :

قال ابن إسحاق: ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.

قال: وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث: أن مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.

(بعث ابن أبي حدرد عينا على هوازن) :

قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبي الله ﷺ بعث إليهم عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم. فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه. ثم أقبل حتى أتى رسول الله ﷺ، فأخبره الخبر، (فدعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب، فأخبره الخبر فقال عمر: كذب ابن أبي حدرد. فقال ابن أبي حدرد: إن كذبتني فربما كذبت بالحق يا عمر، فقد كذبت من هو خير مني. فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال رسول الله ﷺ قد كنت ضالا فهداك الله يا عمر).

(سأل الرسول صفوان أدراعه وسلاحه فقبل) :

فلما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك.

فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدا، فقال صفوان:

أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيهم حملها، ففعل.

(خروج الرسول بجيشه إلى هوازن) :

قال: ثم خرج رسول الله ﷺ معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، واستعمل رسول الله ﷺ عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ابن عبد شمس على مكة، أميرا على من تخلف عنه من الناس، ثم مضى رسول الله ﷺ على وجهه يريد لقاء هوازن.

(أمر ذات أنواط) :

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي، عن أبي واقد الليثي، أن الحارث بن مالك، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية، قال: فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء، يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما. قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله ﷺ سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال رسول الله ﷺ: الله أكبر، قلتم، والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى لموسى: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون» . إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.

(لقاء هوازن وثبات الرسول) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارا، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين، لا يلوي أحد على أحد.

وانحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس؟

هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلا أنه قد بقي مع رسول الله ﷺ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

(أسماء من ثبت مع الرسول) :

وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد. وأيمن بن عبيد، قتل يومئذ قال ابن هشام: اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر، واسم أبي سفيان المغيرة، وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس، ولا يعد ابن أبي سفيان.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل، أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.

(عجز شيبة عن قتل الرسول وقد هم به) :

قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبد الدار:

قلت: اليوم أدرك ثأري (من محمد)، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمدا. قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل مكة، أن رسول الله ﷺ قال حين فصل من مكة إلى حنين، ورأى كثرة من معه من جنود الله: لن نغلب اليوم من قلة. قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن رجلا من بني بكر قالها.

(رجوع الناس بنداء العباس والانتصار بعد الهزيمة) :

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب، قال: إني لمع رسول الله ﷺ آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيما شديد الصوت، قال:

ورسول الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟

فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس، اصرخ، يا معشر الأنصار:

يا معشر أصحاب السمرة، قال: فأجابوا: لبيك، لبيك! قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا، وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم خلصت أخيرا:

يا للخزرج. وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرف رسول الله ﷺ في ركائبه. فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس.

(بلاء علي وأنصاري في هذه الحرب) :

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله ﷺ.

قال: والتفت رسول الله ﷺ إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله ﷺ، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلته، فقال من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله.

(شأن أم سليم) :

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ التفت فرأى أم سليم [3] بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال لها رسول الله ﷺ: أم سليم؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله ﷺ: أو يكفي الله يا أم سليم؟ قال: ومعها خنجر ، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته، إن- نا مني أحد من المشركين بعجته -شققته- به قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء.

قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث ابن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل بها حتى قتل.

قال ابن إسحاق: وأخبرني عامر بن وهب بن الأسود، قال: لما بلغ رسول الله ﷺ قتله، قال: أبعده الله! فإنه كان يبغض قريشا.

وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين.

من قريش ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد.

ومن بني أسد بن عبد العزى: يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل.

ومن الأنصار: سراقة بن الحارث بن عدي، من بني العجلان.

ومن الأشعريين: أبو عامر الأشعري. ثم جمعت إلى رسول الله ﷺ سبايا حنين وأموالها، وكان على المغانم مسعود بن عمرو الغفاري، وأمر رسول الله ﷺ بالسبايا والأموال إلى الجعرانة، فحبست بها. [السيرة النبوية لابن هشام 2/437 – 478]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • النصر بالإيمان بالله والثبات على العقيدة، فحنين علمت الأمة درسا في العقيدة الإسلامية؛ فإذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا في جنب كثرة أعدائهم، إذا كانوا صابرين ومتقين، فإن غزوة حنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضا لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين.
  • حسن التوكل على الله مع الثبات والجلد وقت الصعاب من أهم عوامل النصر وجمع القوة.
  • غزوات النبي كافة تعد درسا في قيمة المبادأة واليقظة المستمرة والأخذ بالأسباب (كشراء النبي أسلحة من قريش وبعضها من مشركين والحشد بقوة كبرى لملاقاة العدو).
  • إمكانية الاستعانة بالمشركين في حروب المسلمين الكبرى.
  • شجاعة النبي، وقدوته كقائد عسكري، يحتمي به الجنود، وإذا ما فروا يقف ثابتا بالميدان يلملم شملهم.
  • حكمة النبي في تأليف قلوب المسلمين الجدد بالمزيد من غنائم الغزوة.
  • حكمة النبي أيضا بإزالة ما في نفس بعض المسلمين الذين لم يجزل لهم في الغنيمة، بأنه سيكون بينهم وهذا أكبر من المادة.
  • الإسلام يحرم العدوان على غير أهل الحرب المقاتلين في الميدان، من نساء وأطفال وعجائز وعبيد.
  • تتبدى في الغزوة رحمة الحبيب؛ فهو القائد المنتصر ومع ذلك يبسط الفرش لأخته من الرضاعة وكانت بين السبايا، ويطمئن عليها ويجلس معها