﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الهجرة الأولى إلى الحبشة

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.

وكان أول من خرج من المسلمين من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر:

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته: سهلة بنت سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة.

ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي:

الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

ومن بني زهرة بن كلاب:

عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف بن عبد (بن) الحارث بن زهرة.

ومن بني مخزوم ابن يقظة بن مرة:

أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب:

عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.

ومن بني عدي بن كعب:

عامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب، من عنز بن وائل- معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة (بن حذافة). ومن بني عامر بن لؤي: أبو سبرة بن أبي رهم ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو ، ويقال: هو أول من قدمها.

ومن بني الحارث بن فهر:

سهيل بن بيضاء،

فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة وكان عليهم عثمان بن مظعون ثم خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه.

فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار ابن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.

فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ، ثم بعثوهما إليه  فيهم.

فقال أبو طالب، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتا للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم.

أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟

قالوا: نقول: والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا (به) في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت:

فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، قالت: فقرأ عليه صدرا من: «كهيعص 19: 1» . قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال (لهم) النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.

فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أثقى الرجلين فينا: لا نفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه (من) الغد فقال (له): أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت أم سلمة: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، (يقول): هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود ، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم: الآمنون- من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم . ما أحب أن لي دبرا -جبلا- من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار.

ثم قُتل أبو النجاشي وباعه عمه ثم رده قومه ثم خرجوا عليه عندما أسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له. [السيرة النبوية لابن هشام 1/321 – 341].

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • في الأمر بالهجرة إلى الحبشة ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدنيين -ولو اختلفت دياناتهم -هي أوثق وأقوى من أي رابطة أخرى من غير أهل الكتاب،
  • [الأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّاتٍ؛ أمَّهاتُهُم شتَّى ودينُهُم واحدٌ، وإنِّي أولى النَّاسِ بعيسى ابنِ مريمَ؛ لأنَّهُ لم يَكُن بيني وبينَهُ نبيٌّ .........}
  • صاحب الدعوة الصحيحة والحق الواضح لا يستسلم أمام الباطل مهما كانت وسائل الاضطهاد، ويُنوع وسائل دعوته، حسب أساليب أهل الباطل التي لا تنتهي، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائلهم ليقضوا على الحق وأهله، ابتكروا وسائل أخرى، وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة ويزهق 

    وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}

    [الإسراء :81]

    الابتعاد عن مواطن الفتن إذا لم يستطيع المسلم مواجهتها فإن أرض الله واسعة يجد فيها المؤمن السعة والفرج، فلا حجة لمن افتتن ظل يتعايش مع الفتن بحجة أنه يجاهد إنما أرض الله واسعة

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}

[النساء 97]