﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

لما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردهما النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا، وكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة، حتى أسلم عمر (بن الخطاب)، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه، وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.

قال البكائي، قال: حدثني مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، قال:

قال عبد الله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.

عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة، قالت:

والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذا أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه- قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا- قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله. قالت:

فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه- فيما أرى- خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له:

يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه؟

قالت: قلت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، قالت:

يأسا منه، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام. 

قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام، رجل من قومه، من بني عدي بن كعب قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة ابن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟

قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها: «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع - البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير- لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة - صوت كلام لا يفهم- التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى -رجع-، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها: «طه 20: 1». فقرأها، فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب:

هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان (جاء) يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته - موضع شد الإزار- ، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه (به) جبذة شديدة، وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة -داهية- ، فقال عمر:

يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم.

فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم. فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، قال:

لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت: ودخلت في دين محمد؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته:

يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة ، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ.

قال: (و) يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاث مائة رجل (لقد) تركناها لكم، أو تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخ من قريش، عليه حلة حبرة، وقميص موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟

قالوا: صبا عمر، فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟

أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا! خلوا عن الرجل. قال:

فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة:

يا أبت، من الرجل: الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك؟

فقال: ذاك، أي بني، العاص بن وائل السهمي.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك (بمكة) يوم أسلمت، وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا.

قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيرا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، قال:

قلت: أبو جهل- وكان عمر لحنتمة بنت هشام بن المغيرة- قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه. قال: فخرج إلي أبو جهل، فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به، قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به. [السيرة النبوية لابن هشام 1/342 – 350].

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • الأفق المتلبد بالسحب قد يتولد منه برق يضيء، فقد كان إسلام سيدنا حمزة وسيدنا عمر نصرًا عظيمًا للدعوة، بعد أن مرَّت بمحن وشدائد عديدة وقوية في مكة منذ بدايتها، وكان إسلامهما رضي الله عنهما، بمثابة الانفراجة النسبيَّة وقتها.
  • رسالة إلى كلِّ شباب الأُمَّة.. أن اصنع لنفسك قيمةً وهيبة، وعِش حياة الجديَّة، وكن رمزًا لأُمَّتِكَ ودينك، وألقِ في قلوب الناس الحبَّ لهذا الدين، والاحترام له، والتقدير لأهله، فهذه رسالةٌ في يديك عليك أن تُقَدِّمها، فلا تنتظرنَّ أن يأتي المشيب حتى تُحقِّق هذا المطلب، فقد حقَّق عمر أضعافه وهو في مقتبل العمر، زكان عمره ثلاثة وثلاثين عاما، ووقف في وجوه أشياخ قريش وكبرائهم، ولنا في هؤلاء سُنَّة حسنة.
  • لا تتراجع، لا تخف، لا تهتز، فقمة العنف والطغيان عند أي طاغية قد تنهزم داخليا وتتحطم وتنهار أمام ثبات أهلها ما داموا على الحق، وإن كانوا قلة.