﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.

كان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ومن حلفائهم: عبد الله ابن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليف لهم. ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم. ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، حليف لهم من عنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البكير، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.

فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم.

فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله ﷺ، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد.

وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، كانا يعتقبانه.

فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو ابن الحضرمي.

فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عمار، لا بأس عليكم منهم.

وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم ابن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة.

وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ مما غنمتا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم- فعزل لرسول الله ﷺ خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.

فلما قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلما قال ذلك رسول الله ﷺ سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.

وقالت يهود- تفاءل بذلك على رسول الله ﷺ- عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي، حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله، وقدت الحرب. فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله ﷺ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [2: 217 ] أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [2: 217] أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [2: 217] أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم ابن كيسان، فقال رسول الله ﷺ: لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله ﷺ منهم.

فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرا.

فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع، أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ [2: 218 ]، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء.

والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.

قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحله، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله، وخمسا إلى الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير. قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون. [السيرة النبوية لابن هشام 1/601 – 605]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

تعظيم النبي ﷺ للأشهر الحرم، والتي تعظمها العرب، وعظّمها الإسلام واكد حرمتها وحرم القتال فيها، فالإسلام يقر ما عند العرب ما دام أمرا صالحا للمسلمين.

كثرة الغزوات والسرايا في هذا الوقت من بداية تكوين نواة الإسلام في عقر دارهم، كما أنها تُشعر العدو دوما بالهزيمة النفسية والخوف