﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

عدم استغلاله فرص التعالي

الأربعاء 16 جمادى الآخرة 1443, الأربعاء 19 يناير 2022

في بعض المواقف تحصل للنبي ﷺ فرصة عظيمة للتعالي والتكبر والفخر، ولكنه يأبى أن يفعل ذلك، ولو كان كاذباً لاستغلها أعظم استغلال: 

يقول أميل درمنغم (1): "ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلاً، فحزن عليه كثيراً ولحده بيده، ووافق موته كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموت إبراهيم، ولكن محمداً كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته. . ." (2)؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال. . ." (3).

وهذا كلام حق، فلو كان غير النبي ﷺ من مدعي النبوة، لاهتبل هذه الفرصة وقال: انظروا إلى الشمس حزنت لحزمي وانكسفت.

وهذا الشاعر النصراني إلياس قنصل يدله إمعان النظر في هذه الحادثة وغيرها أن محمداً ﷺ نبي مخلص صادق ورع يترفع عن استغلال الفرص المواتية لإقامة صرح أمجاد شخصية، فيعلن إيمانه به نبياً وبرسالته ديناً إلهياً قويماً، أنشد إلياس قنصل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. مستشرق فرنسي، عمل مديراً لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) طبع في باريس عام (1929)، و (محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس عام (1929)، و (محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس (1955)، انظر: قالوا عن الإسلام (ص 60).

2. متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب: الدعاء في الخسوف، رقم (1012)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب: صلاة الكسوف، رقم (901)).

3. حياة محمد له (ص 318)، نقله عنه كتاب "قالوا عن الإسلام" (ص 60).


إنــي ذكرتــك يــا نبي مــلوعاً      بشــدائد الآلام والأحـــزان

تحنو على إبراهيم يلفظ روحه      وشبابـه ما زال في الريعان

فنفيت ما نسب الصحابة للسما      وعلى جفونك مدمع التكلان

هي فــرصة لو نــالها متنبــئ      أغنته عن عمل وعن برهان

إن لم يكــن فيما أتيت رســالة      للحق كان الحق في بطلان (1)

ومن هذا الباب حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: 

قَالَ كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ (2) عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا"، فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ ﷺ نَحْوَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ (3)  وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ فَقَالَ: "لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ (4)"، فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ! وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ فَقَالَ: "لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ" (5).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. نبوة محمد ﷺ في القرآن، د. حسن ضياء الدين عتر (ص 264)، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م

2. يسنون عليه: أي يستقون عليه، لسان العرب (س ن ي)، وسني الدابة: استقي عليها الماء، المعجم الوسيط (س ن ي).

3. أي: المسعور، يقال: كلب الكلب يَكلب كلباً: أصابه داء الكلب. انظر: الوسيط (ك ل ب)، ولسان العرب (1/ 722).

4. فالذي عصمه من كل أذى الناس ألا يقدر أن يعصمه من الحيوان؟

5. أخرجه الإمام أحمد (12203) وإسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، رقم (1936) وقد تقدم في ذكر آيات النبي ﷺ.


فلم يستغل النبي ﷺ سجود الحمل له ليعظم نفسه أو يرفعها، بل قال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر".


مواد ذات صلة