﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

غزوة بني قريظة

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

(أمر الله لرسوله على لسان جبريل بحرب بني قريظة) :

فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله ﷺ، كما حدثني الزهري، معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل:

فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.

(دعوة الرسول المسلمين للقتال) :

فأمر رسول الله ﷺ مؤذنا، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة.

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.

(تقدم علي وتبليغه الرسول ما سمعه من سفهائهم) :

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس. فسار علي بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله ﷺ، فرجع حتى لقي رسول الله ﷺ بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله ﷺ من حصونهم. قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا:

يا أبا القاسم، ما كنت جهولا.

(سأل الرسول عمن مر بهم فقيل دحية فعرف أنه جبريل) :

ومر رسول الله ﷺ بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: يا رسول الله، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي، على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج.

فقال رسول الله ﷺ: ذلك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. ولما أتى رسول الله ﷺ بني قريظة: نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنا.

قال ابن هشام: بئر أنى.

(تلاحق المسلمين بالرسول) :

قال ابن إسحاق: وتلاحق به الناس، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله ﷺ: لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة، فشغلهم ما لم يكن منه بد في حربهم، وأبوا أن يصلوا، لقول رسول الله ﷺ: حتى تأتوا بني قريظة. فصلوا العصر بها، بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنفهم به رسول الله ﷺ. حدثني بهذا الحديث أبى إسحاق بن يسار، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري.

(حصارهم ومقالة كعب بن أسد لهم) :

(قال): وحاصرهم رسول الله ﷺ خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه. فلما أيقنوا بأن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب ابن أسد لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء، قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة، قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.

(أبو لبابة وتوبته) :

(قال) ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ﷺ: أن ابعث إلينا أبا لبابة  بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله ﷺ إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح قال أبو لبابة: فول الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ﷺ ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله ﷺ حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده. وقال:

لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله: أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

(ما نزل في خيانة أبى لبابة) :

قال ابن هشام: وأنزل الله تعالى في أبي لبابة، فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ 8: 27].

(موقف الرسول من أبي لبابة وتوبة الله عليه) :

قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله ﷺ خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله ﷺ من السحر، وهو في بيت أم سلمة.

(فقالت أم سلمة ) : فسمعت رسول الله ﷺ من السحر وهو يضحك. قالت: فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك، قال: تيب على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى، إن شئت. قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه رسول الله ﷺ خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.

(ما نزل في التوبة على أبي لبابة) :

قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال. تأتيه امرأته في كل وقت صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9: 102].

(إسلام نفر من بني هدل) :

قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل، ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله ﷺ.

(أمر عمرو بن سعدى) :

وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي، فمر بحرس رسول الله ﷺ، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟

قال: أنا عمرو بن سعدى- وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ﷺ، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا- فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله.

فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله ﷺ شأنه، فقال: ذاك رجل نجاه الله بوفائه. وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، حين نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فأصبحت رمته ملقاة، ولا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله ﷺ فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان.

(نزول بني قريظة على حكم الرسول وتحكيم سعد) :

(قال) فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت- وقد كان رسول الله ﷺ قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول، فوهبهم له- فلما كلمته الأوس قال رسول الله ﷺ: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال رسول الله ﷺ: فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان رسول الله ﷺ قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله ﷺ قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب. فلما حكمه رسول الله ﷺ في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله ﷺ، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله ﷺ إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد أنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه. فلما انتهى سعد إلى رسول الله ﷺ والمسلمين، قال رسول الله ﷺ: قوموا إلى سيدكم- فأما المهاجرون من قريش، فيقولون: إنما أراد رسول الله ﷺ الأنصار، وأما الأنصار، فيقولون: قد عم بها رسول الله ﷺ- فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله ﷺ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم: وعلى من ها هنا؟

في الناحية التي فيها رسول الله ﷺ، وهو معرض عن رسول الله ﷺ إجلالا له، فقال رسول الله ﷺ: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

(رضاء الرسول بحكم سعد) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو ابن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله ﷺ لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

(سبب نزول بني قريظة على حكم سعد في رأي ابن هشام) :

قال ابن هشام: حدثني بعض من أثق به من أهل العلم: أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم، فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد بن معاذ.

(مقتل بني قريظة) :

قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله ﷺ بالمدينة في دار بنت الحارث ، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله ﷺ إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ست مائة أو سبع مائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمان مائة والتسع مائة. وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله ﷺ أرسالا: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله ﷺ.

(مقتل ابن أخطب وشعر ابن جوال فيه) :

وأتي بحيي بن أخطب عدو الله، وعليه حلة له فقاحية قال ابن هشام: فقاحية: ضرب من الوشى- قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة (أنملة) لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله ﷺ، قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.

(قتل من نسائهم امرأة واحدة) :

قال ابن إسحاق: وقد حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله ﷺ يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله قالت: قلت لها: ويلك، مالك؟ قالت: أقتل، قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها ، فكانت عائشة تقول: فو الله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل.

قال ابن هشام: وهي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد، فقتلته.

(شأن الزبير بن باطا) :

قال ابن إسحاق: وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري، أتى الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن- وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية. ذكر لي بعض ولد الزبير أنه كان من عليه يوم بعاث، أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله- فجاءه ثابت وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك، قال: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، ثم أتى ثابت بن قيس رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله إنه قد كانت للزبير علي منة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله ﷺ: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ﷺ قد وهب لي دمك، فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ قال: فأتى ثابت رسول الله ﷺ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هب [1] لي امرأته وولده، قال: هم لك. قال: فأتاه فقال: قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه سلم أهلك وولدك، فهم لك، قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، ما له، قال: هو لك. فأتاه ثابت فقال: قد أعطاني رسول الله ﷺ مالك، فهو لك، قال: أي ثابت، ما فعل الذي كأن وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي، كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا فررنا، عزال بن سموأل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال:

ذهبوا قتلوا؟ قال: فأني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت، فضرب عنقه.

فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله «ألقى الأحبة» . قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا (فيها) مخلدا.

قال ابن هشام: قبلة دلو ناضح.

(أمر عطية ورفاعة) :

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ قد أمر بقتل كل من أنبت منهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: كان رسول الله ﷺ قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما، فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي.

قال (ابن إسحاق): وحدثني أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة أخو بني عدي بن النجار: أن سلمى بنت قيس، أم المنذر، أخت سليط بن أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله ﷺ، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء- سألته رفاعة بن سموأل القرظي، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك، فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، هب لي رفاعة، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، قال:

فوهبه لها، فاستحيته.

(قسم فيء بني قريظة) :

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل، من ليس له فرس، سهم. وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا، وكان أول فيء وقعت فيه السهمان، وأخرج منها الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله ﷺ فيها وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازي.

ثم بعث رسول الله ﷺ سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

(شأن ريحانة) :

(قال): وكان رسول الله ﷺ قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله ﷺ حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله ﷺ عرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت:

يا رسول الله، بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها. وقد كانت حين سباها قد تعصت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله ﷺ، ووجد في نفسه لذلك من أمرها. فبينا هو مع أصحابه، إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك من أمرها.

 

(ما نزل في الخندق وبني قريظة) :

قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة من القرآن، القصة في سورة الأحزاب، يذكر فيها ما نزل من البلاء، ونعمته عليهم، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم، بعد مقالة من قال من أهل النفاق:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [33: 9].

والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة. يقول الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [33: 10].

فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان. يقول الله (تبارك و) تعالى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [33: 11- 12] لقول معتب بن قشير إذ يقول ما قال. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا 33: 13 لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه «ولو دخلت عليهم من أقطارها» : أي المدينة.

قال ابن هشام: الأقطار: الجوانب، وواحدها: قطر، وهي الأقتار، وواحدها: قتر.

«ثم سئلوا الفتنة 33: 14» : أي الرجوع إلى الشرك لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا.

ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، وكان عهد الله مسؤلا 33: 14- 15، فهم بنو حارثة، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يوم أحد، ثم عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا، فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم، ثم قال تعالى: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتعون إلا قليلا. قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا، أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا. قد يعلم الله المعوقين منكم 33: 16- 18: أي أهل النفاق والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا 33: 18: أي إلا دفعا وتعذيرا «أشحة عليكم 33: 19» : أي للضغن الذي في أنفسهم «فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك، تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت 33: 19» : أي إعظاما له وفرقا منه «فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد 33: 19» : أي في القول بما لا تحبون، لأنهم لا يرجون آخرة، ولا تحملهم حسبة، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده.

قال ابن هشام: سلقوكم: بالغوا فيكم بالكلام، فأحرقوكم وآذوكم. تقول العرب: خطيب سلاق، وخطيب مسلق ومسلاق.

«يحسبون الأحزاب لم يذهبوا 33: 20» قريش وغطفان «وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا 33: 20» .

ثم أقبل على المؤمنين فقال: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر 33: 21» : أي لئلا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ولا عن مكان هو به.

ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به، فقال: ولما رأ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما 33: 22: أي صبرا على البلاء وتسليما للقضاء، وتصديقا للحق، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله ﷺ ثم قال: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه» : أي فرغ من عمله، ورجع إلى ربه، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد.

قال ابن هشام: قضى نحبه: مات، والنحب: النفس، فيما أخبرني أبو عبيدة وجمعه: نحوب.

وهذا البيت في قصيدة له. وهوبر: من بني الحارث بن كعب، أراد: يزيد ابن هوبر. والنحب (أيضا) : النذر

يقول: على نذر كانت نذرت أن تقتله فقتلته، وهذا البيت في قصيدة له وبسطام: بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني، وهو ابن ذي الجدين. حدثني أبو عبيدة: أنه كان فارس ربيعة بن نزار. وطخفة: موضع بطريق البصرة والنحب (أيضا) : الخطار، وهو: الرهان.

والنحب (أيضا) : البكاء. ومنه قولهم ينتحب. والنحب (أيضا) : الحاجة والهمة، تقول: ما لي عندهم نحب.

وقال نهار بن توسعة، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

والنحب (أيضا) : السير الخفيف المر.

قال ابن إسحاق: «ومنهم من ينتظر 33: 23» : أي ما وعد الله به من نصره، والشهادة على ما مضى عليه أصحابه. يقول الله تعالى: وما بدلوا تبديلا 33: 23: أي ما شكوا وما ترددوا في دينهم، وما استبدلوا به غيره. ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين إن شاء، أو يتوب عليهم، إن الله كان غفورا رحيما. ورد الله الذين كفروا بغيظهم 33: 24- 25: أي قريشا وغطفان لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا. وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب 33: 25- 26: أي بني قريظة «من صياصيهم 33: 26» ، والصياصي: الحصون والآطام التي كانوا فيها. قال ابن إسحاق: «وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا 33: 26» : أي قتل الرجال، وسبى الذراري والنساء، «وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها 33: 27» : يعني خيبر «وكان الله على كل شيء قديرا 33: 27» . [السيرة النبوية لابن هشام 2/233 – 250]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • أخذ الأخبار من مصادرها وأصحابها الحقيقيين، ولهذا فإن الرسول ﷺ لما سمع أن يهود بني قريظة قد نقضوا العهد أرسل إليهم أربعة من أصحابه ليتأكدوا له من صحة الخبر فوجدوا الخبر صحيحاً وسمعوهم يقولون: "من محمد؟! لا عهد بيننا وبينه ولا عقد".
  • ظهور محاسن الإسلام وأخلاقياته في الحرب، فالنبي ﷺ لم يقتل من يهود بني قريظة إلا الرجال وأما النساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالحرب والقتال فلم يتعرض لهم بسوء.

فيجب التأكد في الأخبار من أصحابها ومصادرها الأصلية خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأقاويل والأراجيف والأخبار الملفقة وهنا يجب أن نرجع إلى قوله تعالى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}

[الحجرات:6]

فكل من لم يقاتل منهم ولم يتعرض المسلمين بشيء فيترك ولا يقتل، أما من شارك منهم في قتال المسلمين ولو بكلمة أو رأي أو دعم أياً كان نوعه فإنه يقتل ولو كان طفلاً أو امرأة كما فعل النبي ﷺ بالمرأة التي وضعت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته، فقُتِلَت لأجل ذلك.

 فشتَّان بين الأخلاق العسكرية الإسلامية وبين الأفعال اليهودية والصليبية التي لا تفرِّق بين أحد فتقصف قصفاً عشوائياً وتستخدم الطائرات الحربية أو من دون طيار لقصف المناطق بمن فيها وهدم البيوت على رءوس ساكنيها. جواز القيام إكرامًا للقادم: أمرَ النبيُّ ﷺ الأنصارَ حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبًا دابته أن يقوموا إليه تكريمًا له، ودلَّ على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وفي هذا فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا.