﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

وغزا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه اليمن، غزاها مرتين.

قال ابن هشام: قال أبو عمرو المدني: بعث رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد في جند آخر، وقال: إن التقيتما فالأمير علي بن أبي طالب.

بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة عشر، فأمره رسول الله ﷺ أن يعسكر بقباء، فعسكر بها حتى تتام أصحابه، فعقد له رسول الله ﷺ يومئذ لواء، أخذ عمامة فلفها مثنية مربعة فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه وقال: هكذا اللواء! وعممه عمامة، ثلاثة أكوار، وجعل ذراعا بين يديه وشبرا من ورائه، ثم قال: هكذا العمة!

قال: فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع، قال: لما وجهه رسول الله ﷺ قال: امض ولا تلتفت! فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، كيف أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلهم، تلومهم ترهم أناة، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل:

هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. والله، لأن يهدي الله على يدك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت!

قال: فخرج في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد، فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد- وهي أرض مذحج- فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم وسبي ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك.

فجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقاهم جمع، ثم لقي جمعا فدعاهم إلى الإسلام وحرض بهم، فأبوا ورموا في أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن الخزاعي السلمي، فتجاولا ساعة وهما فارسان، فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا، فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائما، فكف عن طلبهم ودعاهم إلى الإسلام، فسارعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله!

قال: فحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: وجمع علي عليه السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء، فأقرع عليها، فكتب في سهم منها «لله» ، فخرج أول السهام سهم الخمس، ولم ينفل أحدا من الناس شيئا. فكان من قبله يعطون أصحابهم- الحاضر دون غيرهم- من الخمس. ثم يخبر بذلك رسول الله ﷺ فلا يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي عليه السلام فأبى وقال:

الخمس أحمله إلى رسول الله ﷺ فيرى فيه رأيه، وهذا رسول الله ﷺ يوافي الموسم، ونلقاه ويصنع فيها ما أراه الله.

فانصرف راجعا، وحمل الخمس وساق معه ما كان ساق، فلما كان بالفتق تعجل. وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم تساق مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم.

قال أبو سعيد الخدري- وكان معه في تلك الغزوة- قال: وكان علي عليه السلام ينهانا أن نركب على إبل الصدقة، فسأل أصحاب علي عليه السلام أبا رافع أن يكسوهم ثيابا فكساهم ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين مكة، خرج علي عليه السلام يتلقاهم ليقدم بهم فينزلهم، فرأى على أصحابنا ثوبين ثوبين على كل رجل، فعرف الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ قال: كلموني ففرقت من شكايتهم، وظننت أن هذا يسهل عليك، وقد كان من كان قبلك يفعل هذا بهم. فقال: رأيت إبائي عليهم ذلك! وقد أعطيتهم، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت، فتعطيهم! قال: فأبى علي عليه السلام أن يفعل ذلك حتى جرد بعضهم من ثوبيه، فلما قدموا على رسول الله ﷺ شكوا، فدعا عليا فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما أشكيتهم؟

قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أمورا، ينفلون من أرادوا من الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك. فسكت النبي ﷺ.

قال: فحدثني سالم مولى ثابت، عن سالم مولى أبي جعفر، قال:

لما ظهر علي عليه السلام على عدوه ودخلوا في الإسلام، جمع ما غنم واستعمل عليه بريدة بن الحصيب، وأقام بين أظهرهم، فكتب إلى رسول الله ﷺ كتابا مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره أنه لقي جمعا من زبيد وغيرهم، وأنه دعاهم إلى الإسلام وأعلمهم أنهم إن أسلموا كف عنهم، فأبوا ذلك وقاتلهم.

قال علي عليه السلام: فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل منهم من قتل.

ثم أجابوا إلى ما كان عرض عليهم، فدخلوا في الإسلام وأطاعوا بالصدقة، وأتى بشر منهم للدين، وعلمهم قراءة القرآن.

فأمره رسول الله ﷺ يوافيه في الموسم، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي عليه السلام بذلك.

قال: فحدثني سعيد بن عبد العزيز التنوخى، عن يونس بن ميسرة ابن حليس، قال: لما قدم علي بن أبي طالب عليه السلام اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود، حتى استمعا له فواقفاه، وهو يقول: إن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. قال كعب: صدق! فقال علي: وفيهم من لا يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. فقال كعب: صدق! فقال علي عليه السلام: ومن يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق! فقال الحبر: وكيف تصدقه؟ قال: أما قوله: «من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار» فهو المؤمن بالكتاب الأول ولا يومن بالكتاب الآخر.

وأما قوله: «منهم من لا يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار» فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر. وأما قوله: «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة»

فهو ما يقبل الله من الصدقات. قال: وهو مثل رأيته بين! قالوا: وجاء كعبا سائل فأعطاه حلته، ومضى الحبر مغضبا؟ ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلة براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت: نعم! فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة ولبس الحلة، وأسرع السير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة!

قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن نسطاس، عن عمرو بن عبد الله العبسي، قال: قال كعب الأحبار: لما قدم علي عليه السلام اليمن، لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد. فجعل يخبرني عنه، وجعلت أتبسم فقال: مم تتبسم فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقال: ما يحل وما يحرم، فقلت: فهو عندنا كما وصفت! وصدقت برسول الله ﷺ وآمنت به. ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفرا فقلت: هذا كان أبي يختمه علي ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبي يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله ﷺ، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، فقدمت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويا ليت أني كنت تقدمت فى الهجرة! [السيرة النبوية لابن هشام 2/ 641 ، مغازي الواقدي 3/ 1079 – 1083]

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • نشر دين التوحيد والإيمان بالرسالة أسمى غرض للجهاد الإسلامي وليس جني غنائم أو سفك دماء.
  • لئن يهد الله رجلا خير مما طلعت عليه الشمس.
  • تقدير المرء لمستوى قدرته على القيام بالمهام؛ وكان علي يخشى عدم إدراكه بمهام القضاء.
  • بركة دعاء النبي لأصحابه وقد دعا لعلي بتثبيت قلبه ولسانه على الحق.