﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

الإثنين 13 ربيع الأوّل 1446, الاثنين 16 سبتمبر 2024

لما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا، وكان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر له على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه.

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا، قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ

[3: 81]

عن عائشة رضي الله عنها: أن أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح. قالت: وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.

فكان عبد الله ابن الزبير يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ، بِنَمَطٍ -وعاء- مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي -حبس نفسه- بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي [1] ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ 96: 1- 5] قَالَ: فَقَرَأْتهَا ثُمَّ انْتَهَى فَانْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ:

فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ. قَالَ: فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، قَالَ:

فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِي حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا -ملتصقًا- إلَيْهَا:

فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْن كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا لِي، ثُمَّ حَدَّثْتهَا بِاَلَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا بن عمّ واثبت، فو الّذي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رأى وسمع، فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس -طاهر طاهر-، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس -الوحي- الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه -الهاء في هذه الأفعال للسكت-، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه -وسط الرأس- ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.

ثم قالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني، قالت: قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت:

هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاجلس في حجري، قالت: فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قال:

فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت يا بن عم، اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك وما هذا بشيطان. [السيرة النبوية لابن هشام 1/234 – 240].

الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • لابد لكل عظيم من وقت يخلو فيه بنفسه يجمع فيه همه، ويخلو فيه بربه، فاحرص على هذه الخلوات واملأها بالذكر، لتُذكر في السماء عند الله بذكرك لله.
  • التزكية للنفس أمر واجب، ولابد لتحققها من انقطاع عن شواغل الناس وهموم الحياة، والمكث في خلوة حصينة، موجِّها وجهه وقلبه إلى الله رب العالمين،
  • لتستفيد من خلواتك في تزكية نفسك، فلابد أن تكون حصينة، "كان في غار أعلى جبال مكة" ولابد أن تكون طويلة ليست ليلة أو ليلتين بل (ليالي ذوات العدد) وساعتها: أنس الأرواح وتزول الهموم وتنزاح، ومعها تطمئن القلوب وترتاح، وفيها تُضَمَّدُ الجراح
  • من أعظم اللحظات التي مرت بها الأرض، لحظة نزول الوحي، ومجيء جبريل عليه السلام، وأشد اللحظات التي أصابت الأرض بالكآبة والحزن، ساعة انقطاع الوحي، بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • الزوجة العاقلة الصبورة من أعظم ما يعين المرء على تحمل الأعباء الثقيلة، والقيام بالمهام الجسيمة، كذلك كانت خديجة رضي الله عنها زوج نبينا صلى الله عليه وسلم خير ناصح وأفضل نصير.
  • اختار الله لخير أمة خير رسول، وأنزل عليه خير كتاب، وسرت الخيرية في دماء الصحابة حتى نشروا أنوار الهداية في الأرض، فالواجب محاولة إرجاع تلك الخيرية في هذه الأيام.
  • من خلال أول ما نزل من القرآن نعلم أن العنوان الأول لرسالة الإسلام هي العلم، إذ بدأت بأعظم عنوان للعلم والمعرفة وهو القراءة

{اقرأ}.