﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

غزوة بدر الكبرى

الخميس 16 ربيع الأوّل 1446, الخميس 19 سبتمبر 2024

ثم إن رسول الله ﷺ سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشأم في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.

لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلا من الشام، ندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى خربا وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على  أمر الناس. حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.

عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد ابن رومان، عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به، فقال لها: وما رأيت؟

قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث: ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها. فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.

ثم خرج العباس، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها له، واستكتمه إياها. فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها.

قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: فقلت: وما رأت؟ قال:

يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرقنا.

فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غير لشيء مما سمعت، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير. وايم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفينكه.

قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه، ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله، أكل هذا فرق مني أن أشاتمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.

قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.

فتجهز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا. وأوعبت قريش، فلم يتخلف من أشرافها أحد.

إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكان قد لاط  له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه، بعثه فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال:

قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس.

قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر- كما حدثني بعض بني عامر بن لؤي، عن محمد بن سعيد بن المسيب- في ابن لحفص بن الأخيف، أحد بني معيص بن عامر بن لؤي، خرج يبتغي ضالة له بضجنان، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة، وعليه حلة له، وكان غلاما وضيئا نظيفا، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو بضجنان، وهو سيد بني بكر يومئذ، فرآه فأعجبه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: أنا ابن لحفص ابن الأخيف القرشي. فلما ولى الغلام، قال عامر بن زيد: يا بني بكر، ما لكم في قريش من دم؟ قالوا: بلى والله، إن لنا فيهم لدماء، قال: ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برجله إلا كان قد استوفى دمه. قال: فتبعه رجل من بني بكر، فقتله بدم كان له في قريش، فتكلمت فيه قريش، فقال عامر بن يزيد: يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء، فما شئتم. إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم، ونؤدي ما لكم قبلنا، وإن شئتم فإنما هي الدماء: رجل برجل، فتجافوا عما لكم قبلنا، ونتجافى عما لنا قبلكم، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش، وقالوا:

صدق، رجل برجل. فلهوا عنه، فلم يطلبوا به.

قال: فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بمر الظهران، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له، فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به، وعامر متوشح سيفه، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله، ثم خاض بطنه بسيفه، ثم أتى به مكة، فعلقه من الليل بأستار الكعبة. فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة، فعرفوه، فقالوا: إن هذا لسيف عامر بن يزيد، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله، فكان ذلك من أمرهم. فبينما هم في ذلك من حربهم، حجز الإسلام بين الناس، فتشاغلوا به، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر، فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم.

عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا.

قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه- قال ابن هشام: خرج (يوم الاثنين) لثمان ليال خلون من شهر رمضان- واستعمل عمرو بن أم مكتوم- ويقال اسمه: عبد الله بن أم مكتوم أخا بني عامر بن لؤي، على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة.

ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال ابن هشام: وكان أبيض.

وكان أمام رسول الله ﷺ رايتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.

وكانت إبل أصحاب رسول الله ﷺ يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها، فكان رسول الله ﷺ، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة، موليا رسول الله ﷺ يعتقبون بعيرا، وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا.

قال ابن إسحاق: وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فيما قال ابن هشام.

فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش.

ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم غميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة، حتى إذا كان بعرق الظبية- قال ابن هشام:

الظبية: عن غير ابن إسحاق- لقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله ﷺ، قال:

أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله ﷺ، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك. نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله ﷺ، مه، أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة.

ونزل رسول الله ﷺ سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنصرف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديا، يقال له رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، (ثم على المضيق) ، ثم انصب منه، حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره. ثم ارتحل رسول الله ﷺ، وقد قدمها. فلما استقبل الصفراء، وهي قريبة بين جبلين، سأل عن جبليهما ما اسماهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما، هذا مسلح، وللآخر: هذا مخرئ، وسأل عن أهلهما، فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار فكرههما رسول الله ﷺ والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما. فتركهما رسول الله ﷺ والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له: ذفران، فجزع فيه، ثم نزل.

وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [5: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، فقال له رسول الله ﷺ خيرا، ودعا له به.

ثم قال رسول الله ﷺ: أشيروا علي أيها الناس. وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله ﷺ يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله ﷺ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران، فسلك على ثنايا. يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدبة، وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه:

قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.

قال ابن إسحاق كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله ﷺ: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله ﷺ، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله ﷺ: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟ قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ: سفيان الضمري.

ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه- كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير- فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما. فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى- والكثيب: العقنقل- فقال لهما رسول الله ﷺ: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟

قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله ﷺ: القوم فيما بين التسع مائة والألف.

ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله ﷺ على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة. وبعث الله السماء، وكان الودي دهسا، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم عن السير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.

فحدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ﷺ: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله ﷺ خيرا، ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله ﷺ عريش، فكان فيه.

قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله ﷺ تصوب من العقنقل- وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي- قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة. وقد قال رسول الله ﷺ- (وقد) رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر- إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنا له بجزائره أهداها لهم، وقال:

إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.

فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله ﷺ فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزروا لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاث مائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال:

يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية.

قال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله ﷺ عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بني عدي بن النجار- قال ابن هشام: يقال، سواد، مثقلة، وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف - وهو مستنتل من الصف- قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف- فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدني . فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه، وقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه: فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله ﷺ بخير، وقاله له.

قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله ﷺ الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره، ورسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبي الله: بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وقد خفق رسول الله ﷺ خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فحرضهم، وقال:

والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرا. فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال:

حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال، بعد أن ذهب بصره:

لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن علي بن أبي طالب قال: العمائم: تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال:ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.

قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز، وهو يقاتل ويقول: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سنى ... لمثل هذا ولدتني أمي وكان شعار أصحاب رسول الله ﷺ يوم بدر: أحد أحد.

ثم أقبل رسول الله ﷺ قافلا إلى المدينة، ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، واحتمل رسول الله ﷺ معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار ثم أقبل رسول الله ﷺ- حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية- يقال له: سير- إلى سرحة به. فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل رسول الله ﷺ، حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة- كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان-: ما الذي تهنئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها، فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: أي ابن أخي، أولئك الملأ. قال ابن هشام: الملأ: الأشراف والرؤساء. [السيرة النبوية لابن هشام 1/606 – 645]


الدروس المستفادة

الدروس المستفادة من هذا الحدث

  • حقيقة النصر هي من عند الله تعالى، قال تعالى

﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

[الانفال: 10]

  • تحقيق النصر يحتاج إلى اجتماع الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية بالقدر المستطاع، والتوكل الصادق على الله عز وجل، فيكون بذلك التوفيق الرباني في تهيئة أسباب النصر مع التأييدات الربانية.
  • إحقاق الحق، وإبطال الباطل، لا يكونان فقط بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ويظهر ذلك في قوله تعالى

﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ﴾

[الأنفال: 7- 8]

الإعجاب بالنفس مهلكة وضياع والكبر عاقبته الذل والصغار كما وقع للمشركين في بدر، كما أن ذل النفس لله وتواضعها له يستجلب رحمته ونصره وتثيسته لعباده كما وقع للمسلمين

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.