قال ابن الملقن: "جعل ابن سبع من خصائصه: أنه كان نوراً، وكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل.
ويشهد له أنه عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يجعل في جميع أعقابه نوراً، وختم ذلك بقوله: "واجعلني نوراً" (1).
أقول:
أما مسألة كونه ﷺ لا يظهر له ظل، فقد ذكرتها كتب الخصائص، ولم تذكر دليلاً عليها.
وهو ادعاء باطل. إذ لو كان الأمر كذلك لنقله لنا الصحابة رضي الله عنهم، فقد نقلوا لنا كل صغير وكبير يتعلق بحياته ﷺ، فكيف أغفلوا ذكر وصف دائم يظهر كل يوم وكل ساعة، وغفلوا جميعاً عن ذلك.
والذي يبدو أن هذه المسألة، إنما هي نتيجة للقول بأنه ﷺ نور، والنور لا ظل له.
______________________
1. غاية السول ص 297، واللفظ المكرم 2/ 235.
وأما مسألة كونه ﷺ نوراً، والاستدلال له بالحديث، فهو فهم في غاية الغرابة لم يقل به أحد.
أما الحديث المستدل به فقد أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس قال: وكان ﷺ فِي دُعَائِهِ:
(اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَمِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا وَمِنْ أَمَامِي نُورًا وَمِنْ خَلْفِي نُورًا)
وفي رواية لمسلم (أول قال: واجعلني نوراً) (1).
قال ابن حجر: قال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نوراً يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم، هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم. قال: والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى:
{فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍۢ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ }
(2).
وقوله تعالى:
{وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ}
(3).
ثم قال: والتحقيق في معناه: أن النور مظهر ما نسب إليه، وهو يختلف بحسبه: فنور السمع مظهر المسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات ونور القلب كشاف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات.
وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضواً عضواً، أن يتجلى بأنوار المعرفة والطاعات ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس، فكان التخلص منها بالأنوار السادة لتلك الجهات. قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق (4).
______________________
1. متفق عليه (خ 6316، م 763).
2. سورة الزمر، الآية (22).
3. سورة الأنعام، الآية (122).
4. فتح الباري 11/ 148.
وهكذا لم يفهم هؤلاء العلماء - ومنهم ابن حجر - أن المقصود بالحديث أن يتحول الجسم أو الأعضاء إلى نور، بحيث يفقد الجسم مادته التي هي اللحم والعظم.
وهم متفقون على أن المقصود بالنور هو العلم والهداية إلى الحق.
وحتى لو ذهبنا إلى حمل النص على ظاهره، وفقاً للقول الأول للقرطبي، فإن وجود النور في العضو لا يستدعي ذهابه. وكذا وجود النور في المادة لا يستدعي ذهابها.
أخرج البخاري من حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ
(1).
وقد أوضحت الروايات الأخرى كما في فتح الباري وفيها: أنهما لما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر (2).
ومحل الشاهد من الحديث: أن وجود النور في العصا لم يذهب بمادتها، بل بقيت عصا وانبعث منها النور.
وخلاصة القول: إن الادعاء بأنه صلى الله عليه وسلم كان نوراً، لا جسم له، وبالتالي لا ظل له، ضرب من الخيال الذي يكذبه الواقع، فقد عاش ﷺ مع أصحابه وزوجاته، فأكل معهم وشرب، وصافحوه.. وكان صلى الله عليه وسلم بشراً مثل بقية الناس، ولد من أبوين من الناس.
______________________
1. أخرجه البخاري برقم (465).
2. فتح الباري 7/ 125.
وقد خاطب الله الرسول الله ﷺ فقال له:
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ } (1) (2).
(1) (2).
______________________
1. سورة الكهف الآية (110).
2. وانظر - إن رغبت - التمهيد لهذا الباب.