الهجرة إلى المدينة
عرض الرسول ﷺ نفسه على القبائل: لم يعد لدى رسول الله ﷺ أي أمل في أن تكون مكة مركز الدعوة، وكان عليه أن يفتش عن مكان آخر، وعن قوم آخرين - غير قريش - يقومون بحمايته حتى يبلغ دعوته.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
عرض الرسول ﷺ نفسه على القبائل: لم يعد لدى رسول الله ﷺ أي أمل في أن تكون مكة مركز الدعوة، وكان عليه أن يفتش عن مكان آخر، وعن قوم آخرين - غير قريش - يقومون بحمايته حتى يبلغ دعوته.
وفي الموسم الذي أراد الله فيه للدعوة أن تتبين الطريق إلى قاعدة الانطلاق، إلى المكان الذي يأزر الإيمان إليه، كان الرسول ﷺ جاهداً ينتقل من جماعة إلى أخرى ومن قوم إلى آخرين يعرض أمره ويدعو إلى الله، ويطلب النصرة لتبليغ أوامره. .
وجاء الموسم من العام المقبل، فلقي الرسول ﷺ من أهل يثرب اثنا عشر رجلاً، منهم خمسة كانوا ممن أسلم والتقى به في الموسم السابق، فأسلموا وبايعوه على مثل بيعة النساء، وكانوا عشرة من الخزرج واثنان من الأوس.
كان المسجد الحرام في مكة هو النادي الذي يجتمع فيه القوم، أما هنا في يثرب فلم يكن الأمر كذلك. وكان على أسعد بن زرارة أن يذهب بمصعب إلى مجالس القوم.
ومع حلول الموسم كان عدد المسلمين وافراً في يثرب، فلم يبق بيت إلا وفيه مسلمون أو فيه حديث عن الإسلام. وتذكر هؤلاء حال الرسول ﷺ في مكة فقالوا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فعزم عدد منهم على الحج مع قومهم وكان عددهم يربو على السبعين. وكان مصعب بن عمير قد سبقهم راجعاً إلى مكة يحمل معه بشرى الخير.
أفقرت مكة من أهلها المسلمين، ولم يبق إلا الرسول ﷺ وأبو بكر وعلي، ومن حُبس ومنع من الخروج، واستأذن أبو بكر يريد الهجرة فقال له ﷺ: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا). وطمع أبو بكر أن يكون هذا الصاحب هو رسول الله ﷺ فاسترى راحلتين استعداداً للسفر المتوقع. كما كان تأخر علي بأمر منه ﷺ.
وفتحت قريش أعينها للواقع الجديد فإذا المسلمون قد نزلوا داراً وأصبح لهم إخوان أصابوا بهم منعة، وإذا رسول الله ﷺ قد أصبح له شيعة وأنصار، وبلد يأوي إليه. فخافوا خروجه إليهم وأن يقوى أمره بهم فربما جمع لحربهم. . . ومرت بأذهانهم أيام وأيام نالوا فيها من المسلمين كما نالوا من رسول الله، إنها ثلاثة عشر عاماً، صبر فيها هو وأصحابه على البلاء والتكذيب. . . وكانت لهم جولات وجولات. . . ولئن قاتلهم فلن يلومه أحد. .
كان ﷺ قد مضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في ظهر بيته ثم اتجها إلى غار بجبل ثور فدخلاه. وطلع الصباح. . .
ركب رسول الله ﷺ راحته بعد أن أصر على أخذها بثمنها وركب أبو بكر راحلته وأردف خلفه غلامه عامر بن فهيرة ليخدمهما وركب الدليل راحلته وانطلق الركب في رعاية الله وحماة، بعد أن التفت رسول الله ﷺ إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك) (2).
بلغ الأنصار خروج رسول الله ﷺ من مكة. فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلى منازلهم. فلما كان يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول - على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته - خرجوا على عادتهم فلما حميت الشمس رجعوا. وكان رجل من يهود على أطم (1) من آطام المدينة فرأى رسول الله ﷺ وأصحابه فصرخ: يا بني قيلة (2) هذا صاحبكم قد جاء، فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله ﷺ.
بين يثرب. . . والمدينةكان ذاك اسمها قبل أن يأتي إليها رسول الله ﷺ، وبعد أن استقر فيها ﷺ أصبح اسمها مدينة الرسول أو المدينة. ونحب أن نقف على وصف سريع للوضع السكاني الذي كان قائماً في يثرب قبل وصوله ﷺ إليها.
وهكذا يختلف وضع المسلمين بين ما كانوا عليه بمكة وبين ما هو فيه اليوم في المدينة. كانوا قلة - في مكة - بين مظهر إسلامه، وبين مستخف به، بين قادر على الحركة التي مكنته من الهجرة، وبين سجين منعه القيد من المساهمة فيها ينتظر الفرج من الله تعالى.
وفي المدينة بدأت حياة الاستقرار، ووجد الرسول ﷺ الراحة والاطمئنان، بعد عناء شاق مرير، كما وجد الصحابة المهاجرون الأمن والحرية في إعلان شعائر دينهم، وبدأت مرحلة البناء بإشرافه ﷺ، بناء المجتمع الجديد الذي تعلو فيه كلمة الله تعالى، ويسري فيه الهدي النبوي، تربية وسلوكاً، وطاعة وحباً. ونحب أن نذكر من هذه القواعد:
عقد رسول الله ﷺ على عائشة في مكة قبل الهجرة وهي ابنة ست سنين وبعد وفاة خديجة - وبنى بها في المدينة وهي ابنة تسع سنين وذلك في شهر شوال من السنة الأولى. وللناس هنا هرج ومرج في زواج بنت في التاسعة من عمرها من رسول الله ﷺ وهو في الرابعة والخمسين من عمره.
استقر الرسول ﷺ والمؤمنون من حوله بالمدينة التي أصبحت دار الإسلام ومعقل الدعوة، وبدأت حياة البناء المادي بعد أن سبق الإعداد المعنوي. ولكن الشرك الذي طارد الرسول الكريم مئات الأميال لم يكن ليدع المؤمنين في حياة هادئة مطمئنة، وكان لا بد من وجود القوة التي تحمي الدعوة وتكف الأذى عنها.
سبق الحديث أن رسول الله ﷺ لما ارتحل من قباء، وذلك يوم الجمعة، أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، فكانت أول جمعة صلاها
ولا شك أن الصحابة تعلموا الصبر دروساً عملية. تعلموا كيف يضبطون أعصابهم ويحكمون عقلهم بتصرفاتهم طوال مدة عشر سنوات ولا شك أن حكماً جليلة كانت وراء ذلك: الانضباط: إنهم اليوم يحملون عقيدة لها منهجها ونظامها، لها أوامرها ونواهيها، والطريق ما تزال في البداية، فما ينبغي أن تكون حياتهم اليوم استمراراً للماضي التي كانت تحكمه في تصرفاتهم ردود الفعل الآنية، وما تاريخ العرب الجاهلي إلا الدليل الواضح على ذلك (1).
على أن أسباب عدم الإذن بالقتال في مكة تكاد تكون واضحة: فالمجتمع في مكة يختلط فيه المسلم بالمشرك، وما تزال وشائج العصبية والقبيلة قائمة في نفوس المشركين تجاه أقربائهم من المسلمين، وفي مثل هذا الجو لو سمح بالقتال لنشأت الحروب بين القبائل، ولم يعد هناك مجال لإسماع صوت الدعوة، الأمر الذي يؤدي بها، بين ضوضاء الثأر وبين نزيف الدماء.
مر تشريع القتال بمراحل. فقد أُذن به بعد طول صبر في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ . . .} ثم فرض عليهم القتال لمن قاتلهم في قوله تعالى: {وَقَٰتِلُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ} (2) ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة بقوله: {وَقَٰتِلُوا ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ۚ } (3) وهكذا كان القتال محرماً ثم مأذوناً به ثم مأموراً به بمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين (4).
على أننا لا نستطيع إغفال دور أعداء الإسلام في تشويه معنى الجهاد ومحاولة تغيير مفهومه ذلك لما كابدوا من كونه سداً منيعاً في وجوههم ما دامت حرارته قائمة في نفوس المسلمين ومفهومه مستقراً في عقولهم.