لما دخل شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة، أعلن رسول الله ﷺ عزمه على الحج، وأمر الناس بالجهاز له، وأمرهم أن يلقوه، فاجتمع بالمدينة بشر كثير ممن كان حولها يريدون مصاحبته ﷺ .
وخرج ﷺ من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة وقدم مكة لخمس خلون من ذي الحجة، وصحبه في حجته جميع نسائه.
وخرج المسلمون من القبائل البعيدة فبعضهم لقيه في الطريق، ولقيه بعضهم الآخر في مكة.
وجاء علي رضي الله عنه من اليمن مع أهل اليمن، فالتقى به ﷺ في مكة.
كانت الغاية تعليم الناس المناسك، واللقاء بهم ليملي عليهم وصيته التي ودع الناس بها، وكان يكرر عليهم (أيها الناس: خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا) (1).
وفي يوم عرفة والنبي ﷺ واقف بها بعد العصر نزل عليه قوله تعالى:
{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ}
(2).
ونزلت سورة {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ}، في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله ﷺ أنه الوداع (3).
_______________________
1- أخرجه مسلم برقم (1297).
2- سورة المائدة: الآية 3.
3-فتح الباري، كتاب التفسير، من حديث ابن عمر عند أبي يعلى.
ويبدو أن رسول الله ﷺ هو الذي سماها حجة الوداع، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي ﷺ أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع" (1).
وقد كانت هذه الحجة هي المعلم الذي يرجع إليه في أحكام الحج، حيث كانت حجته ﷺ التطبيق العملي الواضح لأداء هذه المناسك، كما كانت إجاباته على أسئلة الناس إتماماً لهذا البيان.
ويبدو أن الرسول ﷺ خطب في الناس عدة مرات، منها ما كان قبل التروية بيوم بعد الظهر، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر (2).
وكان ﷺ يستنصت الناس، عن جرير رضي الله عنه: "إن النبي ﷺ قال في حجة الوداع لجرير: استنصت الناس" (3).
وكان المبلغ عنه ﷺ ينادي في الناس بما يقوله النبي ﷺ ، يقول له رسول الله ﷺ : (قل: يا أيها الناس، إن رسول الله ﷺ يقول: هلا تدرون أي شهر هذا؟) فيقول لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: (قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم. . .) (4).
وقد رويت هذه الخطب روايات متعددة بعضها أتم من بعض، كما اقتصر بعض الرواة على رواية فقرة واحدة أو فكرة واحدة، وفي رواية ابن إسحاق جاء قوله ﷺ (5):
(أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
_______________________
1- أخرجه البخاري (4402).
2- حاشية حدائق الأنوار لابن الديبع 2/ 739 نقلاً عن كتاب إمتاع الأسماع (529).
3- متفق عليه (خ 121، م65).
4- سيرة ابن هشام 2/ 605.
5- المصدر السابق 2/ 603.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أنه يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به، مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورحب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان (1) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت.
_______________________
1- عوان، جمع عانية، وهي الأسيرة.
وقد تركت فيكم ما إن أعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله ﷺ : اللهم اشهد)
تلك إحدى روايات الخطبة العظيمة، ولئن اختلفت بعض الروايات عن بعضها الآخر في الألفاظ، فإن المعنى واحد، وما ذلك إلا لتعدد الخطب في تلك الحجة والتأكيد على المعنى الواحد في أكثر من موقف ونستطيع أن نجعل الأمور التي تناولتها الخطبة بما يلي:
1- التأكيد على حسن الاستماع والتنويه بأنه ربما كان ذلك هو اللقاء الأخير برسول الله ﷺ .
2- حرمة الدماء والأموال، وأضافت رواية ابن عمر عند البخاري (1) ذكر الأعراض، ثم بيان مقدار هذه الحرمة بحرمة يوم عرفة مضافاَ إليها حرمة الشهر الحرام، مضافاً إليها حرمة البلد الحرام.
3- التأكيد على أداء الأمانات.
4- حرمة الربا والبدء العملي لإلغاء آثاره بإلغاء ربا العباس.
5- هدر دماء الجاهلية والبدء العملي بإلغاء دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وهكذا يبدأ ﷺ بذويه سواء في وضع الربا أو هدر الدماء.
_______________________
1- البخاري في كتاب المغازي: باب حجة الوداع في حديث أبي بكرة (4406) (وأحسبه قال: وأعراضكم)، ثم قال ﷺ: (ألا ترجعوا بعدي ضلالاُ يضرب بعضكم رقاب بعض).
6- الدعوة إلى الحذر من الشيطان أن يتسلل إلى النفوس من خلال ما يحتقره الإنسان من أعمال.
7- عودة الأيام إلى زمنها الذي أجراها الله عليه بعد أن تلاعب الجاهليون بالأشهر الحرم درحاً طويلاً من الزمن.
8- الوصية بالنساء والتأكيد على ذلك، ولعل هذه الوصية تعتبر أطول فقرة في خطابه ﷺ بين من خلالها التزامات كل من الزوجين تجاه الآخر.
9- الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه وسيلة النجاة
10- أخوة المسلمين.
11- الاستماع والطاعة للإمام ما دام يحكم بكتاب الله.
وقد جاء ذلك في حديث أم الحصين عند الإمام مسلم قالت:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَوْلًا كَثِيرًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ حَسِبْتُهَا قَالَتْ أَسْوَدُ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) .
(1)
12- إلغاء مآثر الجاهلية.
ففي رواية الإمام أحمد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه: (. . . أَلَا إِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَذه إِلى يَوم القيامة) (2).
13- التحذير من الدجال، ففي رواية ابن عمر عند البخاري: ". ..ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ)" (3).
_______________________
1- البداية 5/ 196.
2- البداية 5/ 201، وقد ورد في بعض الروايات استثناء السقاية والحجابة.
3- رواه البخاري (4402).
14- التأكيد على تبليغ ما سمعوا: ففي رواية البخاري عن أبي بكرة (. . . ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت مرتين) (1).
وعند الإمام أحمد: (. . . وقال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع) (2).
تلك هي الخطوط العريضة التي وردت في خطبته ﷺ : وإنها لدستور كامل لخص فيها ﷺ منهج الإسلام، فكانت البلاغ (3) العام للناس، حيث بينت ما يترتب على الفرد من التزامات تجاه خالقه سبحانه وتعالى، وتجاه نفسه، وتجاه غيره من الناس، بل والمخلوقات عموماً.
وانتهت شعائر الحج، وعاد الرسول ﷺ وأصحابه إلى المدينة، وعاد الناس إلى مواطنهم، ولعل القليل هم الذين أدركوا ما تعنيه هذه الحجة من اقتراب أجله ﷺ ، وحتى هذا القليل ربما كان يبعد هذا الفهم عن فكرة لعدم القدرة على تصوره، حباً وإجلالاً للرسول ﷺ .
_______________________
1- رواه البخاري (4406)، ومسلم (1679).
2- البداية 5/ 202.
3- وتسمى هذه الحجة: حجة البلاغ.