من الأدلة الواضحة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته أخلاقه الفاضلة، وآدابه الكاملة، وسجاياه الرشيدة، وفطرته الحميدة:
قال سبحانه وتعالى:
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ}
[القلم: 4]
وقال سبحانه وتعالى:
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
[التوبة: 128]
وقال سبحانه وتعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}
[آل عمران: 159]
ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى:
{وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍۢ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ ۚ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[التوبة: 61]
وجاء عن سعيد بن هشام بن عامر أنه أتى عباس رضي الله عنهما فسأله عن وتر رسول الله ﷺ، فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله ﷺ؟ قال: من؟ قال: عائشة فأتها فاسألها، ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله ﷺ. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى: قالت: فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن، قالت: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله ﷺ. . . الحديث (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم مطولاً: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، رقم (746).
وقال:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا. . .
(1)
وقد ألفت في أخلاق النبي ﷺ، وشمائله العطرة، وصفاته الزكية، وعاداته الحميدة مؤلفات كثيرة، من أشهرها، كتاب شمائل النبي ﷺ للترمذي ولأبي بكر المقري، ولأبي العباس المستغفري، وكتاب الأنوار في شمائل المختار للبغوي (2)، وغيرها كثير.
وإليك نتف يسيرة من أخلاقه العطرة:
ففي تواضعه:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"
(3)
وفي حياته:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ .
(4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. متفق عليه (البخاري: كتاب الأدب، رقم (5778)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب: كان رسول الله ﷺ أحسن خلقاً، رقم (2310)
2. انظر: الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للكتاني (ص88).
3. أخرجه الإمام أحمد (12141)، بإسناد صحيح.
4. متفق عليه (البخاري: كتاب الأدب، باب: من يواجه الناس بالعتب، رقم (5751)، ومسلم: (كتاب الفضائل، باب: كثرة حياته ﷺ، رقم (2320).
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ﷺ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا قَالَ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرُ بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَاسْتَتَرَ - وَأَشَارَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ -، وفي رواية : ثم أنه استحيا فأعرض بوجهه - قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَاجْتَذَبْتُهَا إِلَيَّ وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.
(1)
وفي حلمه:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ جَبْذَةً حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَ أَوْ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
(2)
وفي كرمه:
عن ابن المنكدر قال: سمعت جابراً رضي الله يقول: ما سئل النبي ﷺ عن شيء قط فقال لا (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. متفق عليه، واللفظ لمسلم (البخاري: كتاب الحيض، رقم (309)، ومسلم: كتاب الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة ممسكة، رقم (322).
2. متفق عليه (البخاري: كتاب فرض الخمس، باب: ما كان النبي ﷺ يعطي، رقم (2980)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة، رقم (1057).
3. متفق عليه (البخاري: كتاب الأدب، باب: حسن الخلق، رقم (5687)، ومسلم: كتاب الفضائل، رقم (2311).
شهد صفوان بن أمية حنيناً مع النبي ﷺ وهو كافر ثم رجع إلى الجعرانة فبينما رسول الله ﷺ يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان، وصفوان ينظر إلى شعب ملآن نعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه، ورسول الله ﷺ يرمقه فقال: "يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب؟" قال: نعم، قال: "هو لك بما فيه" فقبض صفوان ما في الشعب، وقال عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله (1).
وفي رحمته:
وأما رحمته ﷺ فهي تستحق أن تفرد بباب كامل، فإن الله سبحانه وتعالى قال عنه:
{وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}
[الأنبياء: 107]
وفي الحديث الذي انفرد به الإمام مسلم عن أصحاب الكتب التسعة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً" .
(2)
وهناك رحمته بأمته ورحمته بالمخالف والموافق والصغار والكبار، بل والحيوانات والحشرات وحتى الجمادات كما في حديث الجذع السابق.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ قُلْنَا نَحْنُ قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ" .
(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (ص 453) وذكر أنه أخرجه ابن سعد، وأخرجه الواقدي في مغازيه (ص 850)، وفي أسد الغابة (2/ 20)، مختصر تاريخ دمشق (4/ 6).
2. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها، رقم (2599).
3. أخرجه الإمام أحمد، رقم (3825)، أبو داود كتاب الأدب، باب: قتل الذر، رقم (5268)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 33).
وفي طيب معاشرته:
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه:
وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ ﷺ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا .
(1)
وهذه الأخلاق العظيمة شهد له فيها أعداؤه من كفار قريش وغيرهم، وكان متحلياً بها قبل الإسلام وبعده؛ (فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة، لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة، حسبك الآن منها أمثلة يسيرة، إذا ما تأملتها صورت لك إنساناً من الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغى إلى غلو المادحين له: تواضع هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء، فأنى من مثله الختل (2) أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله!
أما هذه الأمثلة اليسيرة التي تتصل بالجانب الخلقي منه ﷺ رأينا الاكتفاء بها في الدلالة على صدق نبوته، فنجملها فيما يلي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. متفق عليه (البخاري: كتاب الأدب، رقم (5778)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقاً، رقم (2310).
2. الختل: الخداع عن غفلة، الوسيط 01/ 225) (خ ت ل).
1- يتبرأ من علم الغيب.
جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت، وقولي ما كنت تقولين" أخرجه البخاري (1).
وصداقة في كتاب الله سبحانه وتعالى:
{قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ}
[الأنعام: 50]،
{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ}
[الأعراف: 188].
2- لا يظهر خلاف ما يبطن:
كان عبد الله بن أبي السراح أحد النفر الذين استثناهم النبي ﷺ من الأمان يوم الفتح؛ لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي ﷺ لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان رضي الله عنه ثلاثاً. ثم أقبل على أصحابه فقال:
"أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ! قَالَ ﷺ: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ"
أخرجه أبو داود والنسائي (2).
3- خوفه من التقول على الله سبحانه وتعالى:
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلْ السُّوءَ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: "أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ"
أخرجه مسلم (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. البخاري: كتاب المغازي، باب: شهود الملائكة بدراً، رقم (3779).
2. أخرجه أبو داود: كتاب الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، رقم (2683)، والنسائي: كتاب تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد، رقم (4067)، وإسناده حسن.
3.أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على فطرة، (رقم 2662).
وقال البخاري: باب: ما كان النبي ﷺ يسأل مما لم ينزل عليه فيه الوحي، فيقول: لا أدري أو لم يجب، حتى ينزل عليه الوحي ولم يقل برأي ولا بقياس لقوله سبحانه وتعالى:
{بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ ۚ}
[النساء: 105]،
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: سئل النبي ﷺ عن الروح فسكت حتى نزلت الآية (1).
(قوله: باب ما كان النبي ﷺ يسأل مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، أي: كان له إذا سئل عن الشيء الذي لم يوح إليه فيه حالان: إما أن يقول: لا أدري، وإما أن يسكت حتى يأتيه بيان ذلك بالوحي، والمراد بالوحي أعم من المتعبد بتلاوته ومن غيره، وقد وردت فيه عدة أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، فأتاه جبريل فسأله فقال: "لا أدري"، فقال: "سل ربك" فانتفض جبرئيل انتفاضة، الحديث أخرجه ابن حبان، وللحاكم نحوه من حديث جبير بن مطعم، وفي الباب عن أنس عن ابن مردويه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا"، هو عند الدارقطني والحاكم) (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما كان النبي ﷺ يسأل مما لم ينزل عليه الوحي. . .، والحديث الذي في الباب رقمه (7309).
2. فتح الباري، لابن حجر (13/ 303).
4- لا يدري ماذا سيكون حظه عند الله:
ولما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء - امرأة من الأنصار -: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال ﷺ: "وما يدريك أن الله أكرمه؟" فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي"، قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً، أخرجه البخاري (1)، ومصداقه في كتاب الله تعالى:
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ ۖ }
[الأحقاف: 9].
أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريباً أو بعيداً عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت، وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟ بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسؤولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله
{فَلَنَسْـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـَٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍۢ ۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}
[الأعراف: 6- 7] (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. في كتاب الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في الأكفان، رقم (1186).
2. النبأ العظيم، (ص 34- 36)، وقد زدت فيه بعض الزيادات.