إن الإنسان المخادع والكاذب المدعي للصلاح ويهدف إلى أغراض دنيوية من زعامة أو مال أو غير ذلك؛ قد يدعي الصلاح أمام الناس والأتباع؛ لكن سرعان ما يذهب هذا التصنع وتنكشف حقيقته ويذهب زيفه إذا كان وحده أو أمام خاصته.
فإذا أردنا أن نسلط الضوء على حياة النبي ﷺ الخاصة وأعماله في السر وجدنا أمراً عجيباً وطاعة متفانية وجهداً أكبر من الذي يراه الناس، وهذا دليل ظاهر على صدقه ﷺ.
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ .
(1)
وقراءة البقرة والنساء وآل عمران بترسل تأخذ وقتاً لا يقل عن ساعتين، وإذا كان ركوعه وقيامه من الركوع وسجوده قريباً من قراءته؛ فمعنى هذا أنه قائم أغلب الليل إن لم نقل الليل كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (772).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ قَالَ هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ ﷺ .
(1)
وابن مسعود رضي الله عنه من عباد الصحابة فكونه لا يستطيع أن يتحمل عبادة النبي ﷺ فهذا يدل على طول صلاته ﷺ.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل يعني: يبكي (2).
وفي رواية أبي داود: قال رأيت رسول الله ﷺ يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء ﷺ (3).
والنبي ﷺ لم يكن يعلم أن عبد الله بن الشخير قادم، ولو علم بقدومه فإن البكاء لا يمكن أن يستدعى بسرعة.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَحَسَّسْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ .
(4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب: طول القيام في صلاة الليل، رقم (1084)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل رقم (773)).
2. أخرجه الإمام أحمد في أول مسند المدنيين، رقم (15877)، والنسائي، كتاب السهو، باب: البكاء في الصلاة، رقم (1214).
3. أخرجه أبو داود عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، كتاب الصلاة، باب: البكاء في الصلاة، رقم (904).
4. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، رقم (485).
فكونها افتقدت النبي ﷺ من فراشها معناه أن النبي ﷺ انسل من فراشها من غير ما تشعر وحرص على عدم إظهار صوته فهي لم تسمع دعاءه إلا بعد أن قامت وتحسست بيدها فوقعت يدها عليه وهو يقول: "سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت".
وكان أحياناً يخرج من بيتها إلى المسجد يصلي في جوف الليل حتى لا تحس به،
فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"
(1)
ومثل هذا الحرص الشديد على إخفاء الطاعة والجهد الكبير في عبادة السر لا يصدر إلا من صادق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، رقم (486).