تكرر النهي عن الظلم في هذه الخطبة العظيمة، وتكرر النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وقد سبق بعض الحديث عن ذلك.
وقد منع الإسلام كل التعاملات التي تؤدي إلى أكل أموال الآخرين. فقد منع الغش، ومنع كل التعاملات التي يدخلها " الغرر" كما حرم الربا، الذي يأتي على رأس التعاملات السيئة التي تعتدي على أموال الناس.
وقد جاءت الآيات الكريمة في أواخر سورة البقرة بالتحريم القاطع لكل تعامل يدخله الربا. . .
وما من شك في أن المسلمين التزموا بالامتناع عن هذا التعامل، وبما أن آيات تحريم الربا نزلت متأخرة بعض الشيء، فقد أراد الرسول ﷺ أن يؤكد على ذلك في بيانه الأخير لأمته. فكان قوله في ذلك:
(أَلَا إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ. .).
وصورة "الربا" البسيطة التي كانت يومئذ: أن يقع الإنسان في ضيق مادي، ولا يجد من يقرضه، فيلجأ إلى بعض أصحاب الأموال فيستقرض منه المال إلى وقت محدود على أن يعيد له "المائة" التي اتستدلها: مائة وعشرة، فهذه العشرة الزيادة مقابل المدة، فكلما طالت المدة ازدادت الغرامة أو الفائدة. .
فالدائن هنا يستغل حاجة الآخرين، وكلما كانت الحاجة ملحة أكثر كلما تحكم في رفع سعر الفائدة. .
وهذه الصورة من التعامل حرمها الإسلام لأنها تتنافي وتتعارض مع نظامه الأخلاقي فالأصل الذي قرره الإسلام أن يكون المسلم وعونا لأخيه المسلم في وقت الأزمات لا أن يستغل وقت حاجته من أجل كسبه المادي.
ولهذا كان تمهيده صلى الله عليه وسلم لحديثه عن الربا بقول:
(أَلَا إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)
فالأخ لا يظلم أخاه ولا يستل ماله، والربا إنما هو استحلال لأموال الآخرين. . .
ولما تحدثت الآيات الكريمة عن الربا جعلته في مقابل الصدقات. قال تعالى:
{يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ }
[البقرة: 276].
وهذا يوحي بأن المسلم في تصرفه عند حاجة أخيه إنما يكون بالصدقات والقرض الحسن لا بالربا.
بل جملة الحديث عن الربا في القرآن الكريم جاءت على هذا الأسلوب. ولنتأمل ذلك بإمعان في قوله تعالى:
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ }
[البقرة: 274 - 275].
إنهما صورتان، صورة الذي ينفق أمواله تقربا إلى الله، والصورة الأخرى لآكل الربا. . ولا ينبغي للصورة الثانية أن تكون في مجتمع المسلمين.
ولقد ظل آكل الربا - وما زال - منبوذاً في المجتمع الإسلامي، حتى جاء النظام المصرفي الذي انتقل بالتعامل الربوي من المجال الفردي إلى المجال المؤسساتي، ولم يعد التعامل به لحل أزمة خانقة حلت بفرد، وإنما بتعامل به ويستدينه أصحاب الأموال الكثيرة، ومالكو المؤسسات وأصحاب المعامل ليوسعوا أعمالهم ويزيدوا أرباحهم، وهذه هي الطامة الكبرى أن يلجأ على القروض الربوية من ليس بحاجة إليها أصلاً.
إن هذه القروض التي يأخذها أصحاب المؤسسات والمعامل يتحمل أعباءها في النهاية المستهلك لهذه البضائع لأن صاحب المؤسسة أو المعمل سيجعل قيمة الفائدة التي يدفعها بعضاً من تكلفة السلعة المنتجة، وبهذا يتضرر المستهلك وهو لا يشعر.
ولقد حل الإسلام هذا الأمر باللجوء إلى توسيع رأس المال لمن أراد ذلك عن طريق ما يسمى في الفقه "شركة المضاربة" التي لا يكون من نتائجها أي ضرر على المستهلك، مما لا مجال لشرحه في هذا الفصل المختصر.
وخلاصة الأمر: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يذكر ويؤكد ما جاءت به الآيات الكريمة من تحريم الربا، وهو يعطي لأمته في خطبته تلك ما ينبغي أن يكون حاضراً دائماً في أذهانهم ومعمول به في حياتهم.