الدعوة السرية:
ويقصد بها المدة الزمنية التي أعقبت نزول قوله تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ}
سورة المدثر: الآية 1-2
والتي استمرت إلى نزول قوله تعالى:
{فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}
سورة الحجر: الآية 94.
ويكاد يتفق رواة السيرة على أن مدتها كانت ثلاث سنين.
ولم يتوقف كتاب السيرة طويلاً عند هذه المدة، بل لم يفردوا لها عنواناً مستقلاً وفصلاً خاصاً: وإنما ورد الحديث عنها مجملاً ضمن الحديث عن الدعوة.
فابن هشام - على سبيل المثال - يقول نقلاً عن ابن إسحاق: ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعو إليه. وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أنه أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه. . . (1).
ويبدو أنه صلى الله عليه وسلم في هذه المدة اقتصر في الدعوة على الذين يحيطون به من قريب والذين توسم فيهم الخير وتوقع منهم الاستجابة، وكان على ثقة من أخلاقهم - في حال عدم استجابتهم - أنهم لن يفشوا سره.
وبهذا الأسلوب الرصين انطلقت الدعوة هادئة ثابتة الخطى يدعى إليها ذوو العقل الواعي والذين لم تكن الوثنية لتسيطر على أفكارهم قناعة منهم بها، وإنما سكوتاً جرياً على عادة قومهم، خاصة وأنه لم يكن هناك من يوضح لهم السبيل. ولهذا نستطيع القول بأن المؤمنين في هذه المرحلة هم القاعدة الصلبة التي قامت عليها - فيما بعد - دعوة الإسلام يقودها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هذه السرية. يؤكد هذا الحرص ما ورد في رواية إسلام علي رضي الله عنه:
دخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة رضي الله عنها، وهما يصليان، فقال يا محمد ما هذا؟ قال: (دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى). فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث به أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي إذ لم تسلم فاكتم). فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام
البداية لابن كثير (3/ 24).
ونعتقد أن هذا الأسلوب هو ما درج عليه رسول الله وأصحابه في هذه المرحلة من الزمن، حيث الحاجة إلى تثبيت دعائم العقيدة بعيداً عن الجدل والمراء والصخب وإثارة الأعداء. . . إن الدعوة في هذه المرحلة بحاجة إلى القلب الواعي، والفكر الثاقب والقوة على تحمل الأمانة. . فكانت السرية أمراً ضرورياً.
وكان لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه يتم خفية في أماكن معينة منها دار الأرقم بن أبي الأرقم. . . حيث يتعلمون آيات الكتاب ويلتقون بصاحب الرسالة (2).
وكان من أسلم إذا أراد الصلاة ذهب إلى بعض الشعاب ليستخفي بصلاته من المشركين.
السابقون الأولون:
واستجاب إلى دعوة الله ورسوله أولئك النفر الذين يحيطون به صلى الله عليه وسلم.
فآمنت خديجة بنت خويلد زوجه.
وآمن عبد الله بن أبي قحافة أبو بكر صديقه.
وآمن علي بن أبي طالب، ابن عمه، وهو ابن عشر سنين يومئذ، وكان في كفالته.
وآمن مولاه زيد بن حارثة.
وكان أبو بكر رجلاً محبوباً في قومه. وكان أنسب قريش لقريش وكان رجلاً تاجراً، ذا خلق ومعروف، مما جعله مرجعاً لقومه يأتون إليه ويألفونه، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الله من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم بدعائه:
- عثمان بن عفان الأموي.
- الزبير بن العوام الأسدي.
- عبد الرحمن بن عوف الزهري.
- سعد بن أبي وقاص الزهري.
- طلحة بن عبيد الله التيمي.
فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا فأسلموا وصلوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وأخواه: قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته - بنت عمه - فاطمة بنت الخطاب، أخت عمر.
وأسلمت أسماء بنت أبي بكر، وخباب بن الأرت من بني تميم، وعمير بن أبي وقاص - أخو سعد بن أبي وقاص - وعبد الله بن مسعود الهذلي، ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو الفهري، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، وامرأته أسماء بنت سلامة التميمية، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد.
وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس.
وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل الفهرية. وأخوه خطاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار.
ومعمر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون.
والمطلب بن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف.
والنحام، واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد.
وعامر بن فُهيرة، مولى أبي بكر.
وخالد بن سعيد بن العاص، وامرأته أُمينة بنت خلف الخزاعية.
وحاطب بن عمرو الفهري، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله.
وخالد، وعامر، وعاقل، وإياس، بنو البكير.
وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.
هذا ما ذكره ابن هشام في سيرته (3).
وأضاف إليهم ابن كثير بعد أن ذكرهم، فيما نقله من حديث مسلم: عمرو بن عبسة (4). وبلال (5).
كما ذكر المقداد، وسمية أم عمار في عداد أول من أظهر الإسلام (6).
ومن المعروف أن سيدنا أبا بكر، أعتق - إضافة إلى عامر بن فهيرة - بلالاً. وأم عبيس، وزنيرة، والنهدية وابنتها (7).
ويعد أبو ذر الغفاري أحد السابقين الأولين إلى الإسلام (8).
وأسلم قبل هؤلاء جميعاً خالد بن سعيد بن العاص الأموي. وكان من السابقين الأولين. إذ كان رابعاً أو خامساً، كما قال صاحب الإصابة.
ثم دخل الناس في دين الله واحداً بعد واحد، من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به.
وواضح من عرض الأسماء السابقة، أن السابقين الأولين إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا - كما يحب أعداء الإسلام أن يصوروا للناس - من حثالة الناس، او من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم. . أو ما أشبه ذلك.
إن هذا الدين هو منهج الله تعالى لعباده، وليست تعاليمه وأوامره ردود فعل.
الخطأ الفادح:
زلت أقلام بعض كتاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين الأولين إلى الإسلام فكان من كتابة بعضهم.
[وتحدثنا السيرة أن الذين دخلوا في الإسلام في هذه المرحلة كان معظمهم خليطاً من الفقراء والضعفاء والأرقاء فما الحكمة من ذلك؟] (9).
[كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها أربعين رجلاً وامرأة عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي] (10).
[فآمن به ناس من ضعفاء الرجال والنساء والموالي] (11).
ولا نشك في أن الدافع لذلك ما كان سوء النية. بل حسن النية في إعطاء الصورة العظيمة للإسلام وهو يقوم على أكتاف هؤلاء. أو للدفاع عن الإسلام. . بأنه لم يقم على العصبية أو القومية (12).
على أن البحث العلمي يفترض في الباحث ألا تكون الفكرة قائمة في ذهنه ثم يفتش لها عن الأدلة. بل عليه أن يصل إلى الفكرة من خلال ما تكونه الأدلة وتثبته. . وهذه بدهية من بدهيات البحث العلمي. .
ولدى الرجوع إلى كتب السيرة لم نجد مثل هذه التعابير. فابن هشام يبوب لهذا الموضوع بقوله: [ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة] (13) وواضح معنى قوله: [ممن أسلم] فالوصف للبعض وليس للأكثر. . وليس في بحثه أبداً ما يفهم منه الفكرة السابقة التي نحن بصدد الحديث عنها.
وننتقل إلى ابن كثير فنجده يتحدث بالأسلوب نفسه الذي تحدث به ابن هشام فيقول [فصل: في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين] فحديثه على المسلمين المستضعفين الذين ليس لهم من يدفع عنهم. . (14).
على أننا نجد هذا التعبير قد جرى على لسان عروة بن مسعود وهو يفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حيث قال: يا محمد: أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها؟ وكان هذا من باب التحقير. . ولذا كان رد أبي بكر رضي الله عنه متناسباً حيث قال له: امصص بظر اللات. . . (15) وكلام عروة في هذا المقام غير مقبول وهو شبيه بكلام المشركين في اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم مما وصفوه به.
ونستطيع أن نرجع الوقوع في هذا الخطأ إلى سببين:
الأول: حديث أبي سفيان عن هرقل حينما سأله عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة الأسئلة التي وجهها هرقل إلى أبي سفيان قوله: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم" ثم جاء تعليق هرقل على ذلك بقوله: "وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل" (16).
إن هذا النص جعل بعضهم يعد هذا الأمر مسلمة، ويبني عليه رأيه كما فعل ابن الديبع الشيباني في كتابه حدائق الأنوار حيث قال: ولما بعث صلى الله عليه وسلم أخفى أمره وجعل يدعو أهل مكة ومن أتى إليها سراً فآمن به ناس من ضعفاء الرجال والنساء والموالي وهم أتباع الرسل كما في حديث أبي سفيان عن هرقل (17). . .
وهكذا نلاحظ استقرار الفكرة لديه بناءً على حديث أبي سفيان.
الثاني: إن الذين تحملوا القسط الكبير من التعذيب هم الأرقاء والموالي، وكانت فتنتهم على ملأ من الناس. بينما امتنع الآخرون بأقوامهم ومن عذب منهم عذب ضمن قبيلته وفي شعبه. . ولذا لم ينتشر أمرهم ولم يذكروا كثيراً. . ولهذا انتشرت أخبار تعذيب وفتنة الضعفاء. . ولم يذكر ذلك عن الآخرين إلا قليلاً.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: "أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه. وأما أبو بكر منعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. . ." (18).
وهكذا امتنع من لهم قوم، جاء في حدائق الأنوار: وامتنع جماعة ممن أسلم بعشائرهم من أذى المشركين وبقي قوم مستضعفون في أيدي المشركين يعذبونهم بأنواع العذاب كعمار بن ياسر (19). . .
على أن من أسلم ممن له قوم وعشيرة. إنما عذب ضمن عشيرته، قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم (20).
وقال ابن إسحاق: إن رجالاً من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة فقالوا له وخشوا شرهم: إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في غيرهم. قال: هذا فعليكم به فعاتبوه وإياكم نفسه. . . فأقسم لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلاً. . . فقالوا: لو أصيب بأيدينا لقتل أشرفنا. . . فتركوه (21).
وواضح من هذا أن التعذيب كان ضمن القبيلة. . وأن الذي له من يمنعه لم يصله الشر. . . وأما الذين لا قبائل لهم - كبلال فكان تعذيبهم في الأماكن العامة ويشارك به الجميع، وفي هذه الساحات العامة استشهدت سمية وزوجها ياسر. . "وهانت على بلال نفسه في الله فأخذوه فأعطوه الولدان يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد" (22).
ومن هذا نتبين أن المسلمين الأوائل كانوا بين ممتنع بقومه وبين مفتون في أهله - إكراماً له أو لأهله-، وبين معذب مفتون من قبل الجميع، وهؤلاء هم الأرقاء. . ولهذا انتشر ذكرهم، ولا يعني هذا أنهم هم الغالبية العظمى من المسلمين الأول.
إن ما ورد في حديث أبي سفيان فيما يتعلق بالضعفاء، ليس المقصود بهم الأرقاء، كما يتبادر للذهن، ولذا وجدنا ابن حجر رحمه الله، في شرحه للبخاري يرفض أن يأخذ كلمة الأشراف على عمومها بل يقول: والمراد بالأشراف هنا - في الحديث - أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل السؤال. ثم قال في شرح: "فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه" معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبي جهل وأتباعه (23).
وهكذا أوضح رحمه الله أن الشرف يقصد به ما يرادف التكبر.
كما ينبغي أن تعلم أن أبا سفيان كان - يومئذ - عدواً لله ولرسوله، ولم يأل جهداً في التقليل من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صرح بذلك، فقد سأله هرقل: هل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.
وجاء في رواية أبي الأسود عن عروة مرسلاً "خرج أبو سفيان إلى الشام - فذكر الحديث - إلى أن قال: فقال أبو سفيان: هو ساحر كذاب فقال هرقل: إني لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه؟" (24).
وهكذا نلاحظ أن حديث أبي سفيان لا يصلح حجة للفكرة، لأنه من عدو، همه التقليل من شأن عدوه، ثم إن الحديث جرى بينه وبين هرقل بعد صلح الحديبية أي يوم كان قد مضى على الهجرة أكثر من ست سنوات ويوم كان من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير الكثير من الأشراف بما تحمله الكلمة من المعاني المتعددة. ولهذا يمكن القول بأنه كان صريحاً في كذبه.
وما ورد في قول هرقل: "فذكرت أن ضعفاءهم أتبعوه، وهم أتباع الرسل" فالضعف معناه اللين والاستكانة وقابلية الخير والتقرب منه وبغض الشر والابتعاد عنه. وليست هي في مقابل الشرف الذي يعني الرفعة والأصالة في النسب والاحترام والتقدير في العشيرة والأهل. كما فهم ذلك من كلام ابن حجر.
على أن قريشاً أعطت للضعف مفهوماً جديداً حيث أصبح وصفاً لكل من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كان شأنه يؤيد هذا قول أبي جهل للمطعم بن عدي حينما أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد عودته من الطائف - وكان هو وبنوه بكامل سلاحهم - أمجير أم متابع؟ فقال: بل مجير قال: إذن لن تخفر. ولو كان متابعاً لما استطاع أن يفعل ما فعل ولم يكن قوياً بل سوف يكون ضعيفاً بمفهوم المشركين. فما كان المطعم أقوى من عمر؟.
ونعود بعد الوقوف على السببين اللذين اعتبرناهما أساس الخطأ لنقف على ما ذكرته السيرة من أسماء السابقين إلى الإسلام وقد أحصيناهم في بداية البحث فكان عددهم إضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين، وذلك بالرجوع إلى عدد من مصادر السيرة، فإذا تتبعنا هذه الأسماء وجدنا أن مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف الأعاجم هو ثلاثة عشر. ونسبة هذا العدد إلى العدد السابق هي في حدود الخمس وما كان كذلك لا يقال عنه "أكثرهم" ولا "معظمهم" ولا "عامتهم".
ونتساءل بعد هذا لماذا لم تكن الدعوة سريعة الخطا في مكة طالما أنها تستقطب الضعفاء. . . ولماذا لم ينضم إليها كل أولئك الذين كانوا تحت سلطة قريش وهم أضعاف أضعاف الذين أسلموا؟ (25).
إن الانضمام إلى صف المسلمين يومئذ لم يكن مغنماً. . وقد مات من مات تحت التعذيب - وقد كان بلال غير معذب قبل إسلامه، ألم تكن أسرة آل ياسر في راحة قبل إسلامها. . ؟. .
إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن يدفعهم دافع دنيوي وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم يشترك في ذلك الشريف والرقيق والغني والفقير ويتساوى في هذا أبو بكر وبلال وعثمان وصهيب.
نحن لا نريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء. ولكن نريد أن ننفي أن يكونوا هم الغالبية - لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة - ولو كانوا كذلك لكانت دعوة طبقية يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ. . ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون.
إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو يعلن إسلامه. إنهم يدخلون هذا الدين على اعتبارهم أخوة في ظل هذه العقيدة. . عباداً لله.
وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الأولى بالذات من كرام أقوامهم. وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافاً من الهوان ما سبق لهم أن عانوها أو فكروا بها.
إن قناعتنا قائمة على أن الإسلام كان ينساب إلى النفوس الطيبة التي هيأها الله لهذا الأمر. وسبق بعضهم ممن أطلق عليهم المشركون اسم الضعفاء هو التعبير الحق عن عالمية هذا الدين منذ خطواته الأولى. ونعتقد أنه لو كانت لدينا إحصاءات لسكان مكة يومئذ لوجدنا أن نسبة هؤلاء الضعفاء الذين أسلموا إلى الضعفاء الذين لم يسلموا ليست بأكثر من نسبة الأشراف الذين أسلموا إلى غيرهم من أقوامهم ممن لم يسلم.
إنا لا نستطيع أن نطرح من حسابنا ونحن نذكر الأوائل خديجة وأبا بكر وعلي وعثمان والزبير وعبد الرحمن وطلحة وأبا عبيدة وأبا سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون وسعيد بن زيد وعبد الله بن جحش وجعفر وسعد بن أبي وقاص وفاطمة بنت الخطاب. وخالد بن سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة. . .
الصلاة في هذه المدة:
من المسلم به أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء والمعراج ولكن مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل كانوا يؤدون الصلاة في هذه المرحلة السرية، وقد ورد ذلك في رواية إسلام علي رضي الله عنه، كما ورد في رواية إسلام عثمان وصحبه الذين أسلموا بدعوة أبي بكر رضي الله عنهم.
وهذا يعني أن الصلاة شرعت في وقت مبكر، مما جعل بعضهم يرى أنها شرعت قبل "فترة" الوحي.
وقد اختلف في أوقاتها. قال صاحب الفتح: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة، إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي (26).
وسواء أكانت الصلاة قبل الإسراء فرضاً أم تطوعاً، فإنها العمل الأول الذي أداه المسلمون بعد التوحيد، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على أهمية هذا الركن الذي يأتي به العمل مواكباً لإعلان الإيمان، ولئن كان الإيمان عمل القلب فإن الصلاة هي التعبير عنه فهي الصلة بين العبد وبين خالقه.
ولقد بقي للصلاة صدارتها بين الأركان الأخرى، بعد أن كمل الدين، فهي الركن الذي لا يسقط بحال من الأحوال فلا بد من أدائه في السفر والإقامة، وفي المرض والخوف. . ولكن هذا الأداء يكون حسب قدرة المصلي. كما يؤكد هذه الأهمية للصلاة، أنه لا ينوب فيها أحد عن أحد كما يحصل في بعض الأركان الأخرى كالزكاة والحج.
وهذا ما يجعلها الشعار الذي لا تختفي معه هوية المسلم.
- السيرة لابن هشام 1/ 262.
- انظر البداية 3/ 34 في قصة إسلام أبي ذر كمثال على ذلك: حيث قام علي بإرشاده إلى مكان وجود صلى الله عليه وسلم بحذر شديد حيث قال له: اتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء وإن مضيت فاتبعني. . . وهي في البخاري برقم (3861).
- سيرة ابن هشام 1/ 249- 261.
- جاء هذا في صحيح مسلم برقم (832).
- البداية والنهاية 3/ 31.
- البداية والنهاية 3/ 28.
- سيرة ابن هشام 1/ 318.
- جاء هذا في الحديث المتفق عليه (خ 3861، م 2474).
- فقه السيرة للدكتور سعيد رمضان البوطي ص 77.
- المصدر السابق ص 79.
- حدائق الأنوار ومطالع الأسرار لابن الديبع 1/ 301.
- لا شك أنها فرية ولكن الرد عليها لا يكون بتغيير الحقائق الثابتة. ومن الواضح أنها فرية داحضة لأنها لو كانت كذلك لما هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة ولما لاقت الدعوة ما لاقته في مكة.
- ابن هشام 1/ 317.
- البداية والنهاية 3/ 49، 57، 66.
- ابن هشام 2/ 313.
- الحديث متفق عليه (خ 7، م 1773).
- حدائق الأنوار ج1/ 301.
- البداية 3/ 28.
- حدائق الأنوار 1/ 315.
- ابن هشام 1/ 268.
- ابن هشام 1/ 321.
- البداية 3/ 28.
- فتح الباري 1/ 35- 36 الحديث 6.
- فتح الباري 1/ 35 - 36.
- وانظر في إيضاح هذه الفكرة فقرة "العبيد في جيش المشركين" ضمن الحديث عن غزوة أحد.
- فتح الباري 1/ 465 شرح حديث رقم 350 من كتاب الصلاة باب: كيف فرضت الصلاة.