عقد رسول الله ﷺ على عائشة في مكة قبل الهجرة وهي ابنة ست سنين وبعد وفاة خديجة - وبنى بها في المدينة وهي ابنة تسع سنين وذلك في شهر شوال من السنة الأولى.
وللناس هنا هرج ومرج في زواج بنت في التاسعة من عمرها من رسول الله ﷺ وهو في الرابعة والخمسين من عمره.
ونقول في البدء: إن زواج الرسول ﷺ في بعض جوانبه هو من خصوصياته ﷺ كالزيادة على أربع.
ومع ذلك فبالنسبة لسن السيدة عائشة هناك ملاحظات يحسن أن نقف عليها.
1- في مسند عائشة عند الإمام أحمد عن محمد بن عمرو أبي سلمة ويحيى قالا: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: (من؟) قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً، قال: (فمن البكر؟) قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر. قال: (ومن الثيب؟) قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك وابتعتك، قال: (فاذهبي فاذكريهما علي. . ) (1).
فهل كانت خولة بنت حكيم وهي تعرض على رسول الله ﷺ الزواج وتخيره بين عائشة وسودة، وتعرض عليه زواجاً غير ممكن عقلاً؟ وهو بحاجة إلى زوجة في ظرف فقد فيه السند. . وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الزواج من عائشة كان ممكناً في مكة وإنما أخره للظروف التي كان يمر بها وخاصة بعد زواجه من سودة.
_______________________
(1) البداية 3/ 131.
2- وفي تتمة الحديث المتقدم - عند أحمد "فَدَخَلَتْ خولة بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ قَالَتْ وَمَا ذَاكَ قَالَتْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ قَالَتْ انْتَظِرِي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَتْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ قَالَ وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ قَالَ ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ أَنَا أَخُوكَ وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قَالَ انْتَظِرِي وَخَرَجَ قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ فَوَاللَّهِ مَا وَعَدَ مَوْعِدًا قَطُّ فَأَخْلَفَهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَتَى فَقَالَتْ يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ لَعَلَّكَ مُصْبٍ صَاحِبَنَا مُدْخِلُهُ فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ آقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ قَالَ إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ الَّتِي وَعَدَهُ فَرَجَعَ فَقَالَ لِخَوْلَةَ ادْعِي لِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. .).
والملاحظ في هذا الجزء من الحديث:
- إن أبا بكر لم يسأل فيقول: وهل تصلح له. . فإنها صغيرة فلم يذكر ما يتعلق بذلك إنما سأل عن الأخوة وأثرها.
- ثم إن عائشة كانت في السن التي يخطب به أمثالها وإلا كيف تقدم لها ابن المطعم بن عدي (1).
_______________________
(1) أليس هذا مما يدعو إلى التأمل والنظر في رواية ابن إسحاق التي يعد فيها السيدة عائشة مع الرعيل الأول من المؤمنين بالرسول ﷺ وهي صغيرة؟ ومعنى هذا أنها ولدت قبل البعثة، انظر ابن هشام 1/ 254.
- وهذا يدلنا أيضاً على صحة بنيتها ومناسبة جسمها وإن لم يناسب سنها. على أنه مما يؤكد خصوصية هذا برسول الله ﷺ ما رواه البخاري عن عائشة أن النبي ﷺ قَالَ لَهَا:
(أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ (1) مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ).
ومن المعروف أن رؤيا الأنبياء حق، وهي نوع من الوحي. وهذا ما يرجح الخصوصية في هذا الزواج كما أشرنا في بدء الموضوع.
وإذا كنا توقفنا عند أمر السن عند عائشة، فإنه من الأهم بمكان أن نقف على بعض الملاحظات بشأن سن رسول الله ﷺ.
إنه مما لا شك فيه أن الرسول بنى بعائشة وهو في الرابعة والخمسين من عمره. وحينما يذكر هذا الرقم يتبادر للذهن الشيب والضعف ونفسية أصابتها الشيخوخة. . .
ولا شك أن مرور الأعوام هو مقياس أعمار الناس كقاعدة عامة، ولكن المقياس الحقيقي هو حيوية الإنسان ونشاطه وقدرته على المبادرة والعمل. فقد نجد إنسناً في الثلاثين يحمل في جسمه ونفسيته مرور الخمسين. وقد نجد بعض الأحيان إنسان الخمسين فلا نحكم عليه بأكثر من الثلاثين.
وشخصية رسول الله ﷺ فذة في هذا الميدان. فهو - وهو في الخمسين - كان رجلاً في عنفوان شبابه همة وعزماً ومضاء ورجولة إنه في هذا لا يساويه أي إنسان آخر. ولا نقول هذا اعتباطاً، بل يحسن بنا أن نعود إلى النصوص نتأملها.
1- لما عرض رسول الله ﷺ نفسه على القبائل مر على بني عامر بن صعصعة وعرض عليهم أمره فقال بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب (2).
ونلاحظ في قول بيحرة:
- عبر عنه بـ"الفتى" والفتى هو الشاب في مقيبل العمر. الممتلئ حيوية ونشاطاً.
_______________________
(1) سَرَقَة: قطعة.
(2) سيرة ابن هشام 1/ 424.
- وفي قوله: "لأكلت به العرب" يعبر عما لاحظه في شخصية الرسول الكريم من حيوية وهمة لا تقف في وجهها جموع العرب قاطبة. كانت هذه نظرة بيحرة، والرسول ﷺ في الخمسين من العمر يومئذ، إنه الشباب شكلاً ومضموناً، مظهراً ونفسية، همة وروحاً.
2- وفي خبر الهجرة، روى البخاري عن أَنَسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"إنه أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ ﷺ شَابٌّ لَا يُعْرَفُ؛ قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ" (1) وَكَانَ ﷺ لم يشب، وكان أسن من أبي بكر (2).
ويلاحظ من النص بوضوح، أن أبا بكر كان يبدو في سنه الحقيقية شيخاً (3). بينما كان ﷺ يبدو شاباً، لعدم ظهور الشيب فيه، كما أوضح ذلك القسطلاني بقوله: وكان ﷺ لم يشب، وكان أسن من أبي بكر.
3- سأل العلاء بن زياد العدوي أنس بن مالك عن سن رسول الله ﷺ قال: "يا أبا حمزة بسن أي الرجال كان رسول الله ﷺ إذ بعث؟ فقال: ابن أربعين سنة؛. . . ثم قبضه الله إليه، قال: بسن أي الرجال هو يومئذ؟ قال: كأشب الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه" (4) وقال: "توفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" (5) إنه مظهر الشباب لا مرية فيه، وأما الهمة فما عرفت البشرية مثل همته، يكفي أن نذكر أنه بدأ عمليات الكفاح المسلح وقيادة كتائب الحق في ساحات الوغي، وكانت سنه يومئذ بعد الثالثة والخمسين من العمر.
_______________________
(1) أخرجه البخاري برقم (39111).
(2) شرح الزرقاني على المواهب 1/ 355.
(3) الشيخ: من جاوز الأربعين.
(4) البداية 4/ 327 من رواية الإمام أحمد.
(5) متفق عليه (خ 5900، م 2347).
نستطيع أن نقول بعد هذا، بكل الاطمئنان، إن الفارق في العمر بينه ﷺ وبين عائشة لم يكن ذلك الفارق الكبير من وجهة النظر العملية.
ولقد رأيناه في نفسيته وأسلوبه - فيما بعد - كذلك، فها هو ﷺ يسابق السيدة عائشة فتسبقه مرة، ويسبقها أخرى، فيقول: (هذه بتلك) (1) والأمثلة في حياته ﷺ كثيرة.
وبعد: يحق لنا أن نقول لأولئك الذين حزنوا من أجل عائشة، حزنوا على شبابها الضائع ونضارتها التي آلت إلى الشحوب. ألا تستمعون لرأيها فيما يخصها؟ فهي أدرى بمصلحتها.
لما نزلت آية التخيير
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا. .}
(2)
بدأ ﷺ بعائشة رضي الله عنها فقال لها: (إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك)، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية فقالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً وميسراً، لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها) (3).
ماذا يعني قولها رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي. . وماذا يعني حرصها ألا يخبر بقية نسائه. أليس الرغبة في الاستئثار به ﷺ وماذا بعد ذلك من الحب. وماذا بعد ذلك من السعادة؟!
_______________________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود، وقال المحدث الألباني في صحيح الجامع الصغير: صحيح.
(2) سورة الأحزاب: الآية 28.
(3) أخرجه مسلم برقم (1478).
على أن زواج الرسول ﷺ بعائشة يستطيع كل ذي نظر أن يدرك الحكمة الجليلة التي كانت وراءه. فقد تم في مطلع الحياة في المدينة أو لنقل مع بداية المرحلة التشريعية من حياته ﷺ - إذ كانت المرحلة المكية مرحلة بناء العقيدة وتربية السلوك -، والرسول ﷺ هو القدوة في كل جوانب الحياة. ومما لا شك فيه أن الإنسان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في بيته ومع أسرته، وكان لا بد من نقل سلوك الرسول الكريم في هذا الجانب من حياته إلى الناس، حتى يستطيعوا التأسي به. . وكانت تلك مهمة السيدة عائشة رضي الله عنها بما وهبها الله من ذكاء وفهم. . واستطاعت أن تؤدي دورها على خير ما يرام. وإن نظرة عابرة لأي كتاب من كتب السنة تبين وتؤكد ما نقول. وقد ساعدها على ذلك أن الله كتب لها العيش ما يقرب من نصف قرن بعد وفاته ﷺ تلك المدة التي استطاعت بها أن يبلغ ما وعته عن رسول الله ﷺ.