ركب رسول الله ﷺ راحته بعد أن أصر على أخذها بثمنها وركب أبو بكر راحلته وأردف خلفه غلامه عامر بن فهيرة ليخدمهما وركب الدليل راحلته وانطلق الركب في رعاية الله وحماة، بعد أن التفت رسول الله ﷺ إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك) (2).
ولما أيس المشركون من العثور على رسول الله ﷺ وصاحبه. جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما مائة ناقة لكل منهما. ومائة ناقة يومئذ ثروة لا يستهان بها - كما أنها اليوم كذلك - وجد طلاب المال في البحث، وما يهمهم من أمر الرجلين شيء، خاصة وأن الذين يلاحقونهما ويدفعون الثمن هم حماة الدين في مكة.
كان الأمر واضحاً في ذهن رسول الله ﷺ متوقعاً ما حدث ولذا كان التعاقد مع الدليل ليسلك بهما طريقاً غير معروفة، وإلا فالطريق بين مكة ويثرب معروفة لكل الناس وخاصة التجار منهم من أمثال أبي بكر رضي الله عنه.
فلما مروا بحي من مدلج مصعدين من فديد، بصر بهم رجل فوقف على الحي فقال: لقد رأيت آنفاً بالساحل أسودة وما أراها إلا محمداً وأصحابه. وفطن للأمر سراقة بن مالك - فأراد أن يكون الظفر له - فقال: بل هها فلان وفلان خرجا في طلب حاجة لهما.
_______________________
(2) أخرجه أحمد والترمذي كما في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/ 328.
ثم مكث قليلاً ثم قام فدخل خباءه. وأمر جاريته أن تخرج بفرسه من وراء الخباء ثم ركب. . وأدرك الركب واقترب منهم. وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول الله ﷺ لا يلتفت. قال أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد رهقنا فدعا عليه ﷺ، فساخت يدا فرسه في الأرض. قال سراقة فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني فناديت القوم فقلت: أنا سراقة بن مالك أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، ودنا منهما قال: فأخبرتهما خبر ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني (1). وسألته أن يكتب لي كتاباً يكون بيني وبينه آية فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو خرقة. وطلب إليه أن يعمي عنهما فكان أول النهار جاهداً عليهما وكان آخر النهار حارساً لهما. . . وفي رواية أنه ﷺ قال لسراقة: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟) فعجب من ذلك.
وهكذا رجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر وقد كفيتم ما ها هنا.
ثم مروا بخيمة أم معبد الخزاعية - وكانت امرأة برزة جلدة - تطعم وتسقي من مر بها. فسألاها: هل عندها شيء يشترونه فقالت: والله لو عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة فقال: (ما هذه الشاة) قالت: خلفها الجهد عن الغنم فقال: (أتأذنين لي أن أحلبها) قالت: إن رأيت بها حليباً فاحبلها. فمسح ﷺ ضرعها بيده وسمى الله ودعا. . فحلب وسقاها وشرب وشرب أصحابه.
_______________________
(1) من رواية البخاري باختصار برقم (3906). ومعنى يرزآني: أي لم ينقصاني مما معي شيئاً.